كتاب عربي 21

"حصريا": الفساد "بث مباشر".. المواطنة من جديد (83)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600
كلما كان هناك حدث أو حديث يتعلق بالظلم الماحق للمواطن والمواطنة والفساد الذي يلتهم معاشه، أفزع إلى ابن خلدون في مقدمته وفي فصوله الناقضة لأصل العمران ومادته وشروط العمران وإقامته وتسرب حال الخراب للعمران وعلته: "فلا تزال الجملة في نقص ومقدار الوزائع والوظائف في زيادة لما يعتقدونه من جبر الجملة بها، إلى أن ينتقض العمران بذهاب الآمال من الاعتمار، ويعود وبال ذلك على الدولة".

ويواصل ابن خلدون وصفه وتحليله وتفسيره: "حينما يكثر خراج السلطان خصوصا كثرة بالغة بنفقته في خاصته وكثر عطائه ولا تفي بذلك الجباية، فتحتاج الدولة إلى زيادة في الجباية لما تحتاج إليه الحامية من العطاء والسلطان من النفقة، ثم يزيد الخراج والحاجات والتدريج في عوائد الترف وفي العطاء للحامية ويدرك الدولة الهرم.. فتكسد الأسواق لفساد الآمال، ويؤذن ذلك باختلال العمران ويعود على الدولة؛ ولا يزال ذلك يتزايد إلى أن تضمحل".

إنه حال الجباية الفاسدة وتلك الحالة الجبائية القاتلة لكل نمو حقيقي يترك أثره على حاجات الناس وضرورات معاشهم ونهوض عمرانهم؛ وتصور ذلك في عصرنا ليرتبط بالسياسة المالية للدولة وسياسات الضرائب والجمارك وأشكال التهرب الضريبي وأشكال الفساد والرشوة التي تتعلق بمثل هذه الجوانب المالية؛ ضمن منظومة مؤشرات الفساد في هذا المقام.
يتعلق فساد السلطان بدخوله مجال التجارة، وغير ذلك من استغلال المنصب العام لأغراض ومنافع خاصة، وهو ما يعني ضمن الأدبيات الحديثة الحديث عن الفساد الكبير

ويتعلق فساد السلطان بدخوله مجال التجارة، وغير ذلك من استغلال المنصب العام لأغراض ومنافع خاصة، وهو ما يعني ضمن الأدبيات الحديثة الحديث عن الفساد الكبير. ومن الأهمية بما كان أن نشير كذلك إلى إمكانيات فساد في إطار العلاقة بين السلطان ورجال الأعمال والتجارة، وهو في هذا المقام يشير إلى فساد يتعلق بعمل السلطات بالتجارة؛ إلى فساد رجال الأعمال حينما يعملون بالسياسة وإلى تحالف أهل الدولة والسلطة ورجال الأعمال.

كل ذلك إنما يدل على مجالات فساد تجب الفطنة إليها ضمن هذا الفصل النفيس "في أن التجارة من السلطان معزة بالرعايا مفسدة للجباية"، وهو يقدم افتراضا غاية في الأهمية أن الدولة إذا ضاقت جبايتها بما قدمناه بين الترف وكثرة العوائد والنفقات، وقصر الحاصل من جبايتها على الوفاء بحاجاتها ونفقاتها؛ احتاجت إلى مزيد من المال والجباية، فتارة توضع المكوس إن كانت قد استحدثت من قبل، وتارة بمقاسمة العمال والجباة وامتكاك عظامهم ما يرون أنهم قد حصلوا على شيء طائل من أموال الجباية لا يظهره الحسبان، وتارة باستحداث التجارة والفلاحة للسكان على تسمية الجباية. وهم في ذلك يحسبون أن ذلك من إدارة الجباية وتكثير الفوائد، فهذا غلط عظيم وإدخال الضرر على الرعايا من وجوه متعددة.

ويقدم ابن خلدون في فصل مهم آخر "في أن نقص العطاء من السلطان نقض في الجباية" حينما يؤكد افتراض لا يقل أهمية عن سابقه من أنه "إذا احتجز السلطان الأموال أو الجبايات أو فقدت فلم يصرفها في مصارفها؛ قل حينئذ ما في أيدي الحاشية والحامية وهم معظم السواد، فيقع الكساد حينئذ في الأسواق. وذلك أن المال إنما هو متردد ما بين الرعية والسلطان؛ منهم إليه، ومنه إليه، فإذا حبسه السلطان عنده فقدته الرعية".

حالة جامعة بين شبكية الفساد والاستبداد وتقسيم التدبير في وظائف الدولة وأصول العمران؛ الذي هو من جملة مؤشرات الفساد الجامعة في هذا المقام ضمن رؤية لا تجعل من الفساد حالة مادية، وإنما تعتبر الشروط الخاصة المعنوية من بيئة الفساد والتخلق بأخلاقه، و"اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهى بها من أيديهم".
حالة جامعة بين شبكية الفساد والاستبداد وتقسيم التدبير في وظائف الدولة وأصول العمران؛ الذي هو من جملة مؤشرات الفساد الجامعة في هذا المقام ضمن رؤية لا تجعل من الفساد حالة مادية، وإنما تعتبر الشروط الخاصة المعنوية من بيئة الفساد والتخلق بأخلاقه

وفي هذا السياق، فإنه إذا ذهبت الآمال في الاكتساب والتحصيل انقبضت أيدي الرعايا عن العمل والسعي، وفي هذا المقام فإن زيادة معدلات البطالة إنما تعد مؤشرا لا يمكن تغافله في مؤشرات تدل على الفساد.

هكذا يقدم ابن خلدون هذا التحليل العميق وكأنه يعيش بين ظهرانينا؛ إلا أن الأمر أشد سوءا مما ذكر وأكثر قبحا مما استنتج، فاجتمعت العسكرة للمجتمع والحياة ومع إدارة للفساد وبالفساد.

لم يعد لأحد يمكن أن يصدق التسريب الذي أذاعه المعارض المصري "عبد الله الشريف" حول إدارة الاقتصاد المصري، ليس بسبب بيانات وزارة الداخلية المصرية التي سارعت وقدمت متهمين زعموا أنهم كانوا يستخدمون هذه الفيديوهات في النصب على كل من يبتلع طُعمها، بمن فيهم "عبد الله الشريف" ذاته، ولكن عدم التصديق يأتي مما جرى في مؤتمر على الهواء مباشرة شارك فيه المنقلب والعديد من معاونيه ورجال الأعمال المشاركين معهم، فقد اتضح أن تسريب عبد الله الشريف نقطة في بحر مما يجري في مصر في هذا الملف، ولدينا ثلاثة مواقف توضح أن الفساد في مصر لم يعد له حدود أو عليه قيود، وهي على لسان المنقلب نفسه وليست تسريبا.
اتضح أن تسريب عبد الله الشريف نقطة في بحر مما يجري في مصر في هذا الملف، ولدينا ثلاثة مواقف توضح أن الفساد في مصر لم يعد له حدود أو عليه قيود، وهي على لسان المنقلب نفسه وليست تسريبا

فقد أعلن وزير نقل تلك المنظومة عن خفض كلفة إنشاء ثلاثة محاور جديدة في محافظات الصعيد من تسعة مليارات جنيه (573 مليون دولار تقريبا) إلى 7.5 مليار جنيه، بمجرد مطالبته من "المنقلب" بخفض التكلفة على الهواء مباشرة، حيث قال له: "ليه يا كامل تسعة مليارات جنيه؟"، ليرد كامل: "سعر الحديد مرتفع يا أفندم، بس (لكن) ممكن ننزل التكلفة إلى 7.5 مليارات جنيه"، ليعقب المنقلب: سبعة مليارات إيه بس؟ هل الشركات اللي شغالة موجودة؟ فين الحاج سعيد؟!"، في إشارة إلى سعيد محمود، مالك شركة "السعداء للمقاولات" العاملة مع الجيش من الباطن.

ولم يكتف المنقلب بذلك؛ بل بالغ في الكشف عن مستويات الفساد عندما كلف أحد المقاولين بتنفيذ أحد المشروعات مباشرة، فقد استفسر من المقاول الذي يدعى "الحاج سعيد" عن إمكانية تنفيذ أحد المحاور الجديدة على النيل خلال مدة أقصاها 12 شهرا، مقابل الحصول على نسبة 25 في المائة فقط من تكلفة المشروع، وإرجاء الحصول على نسبة 75 في المائة إلى حين الانتهاء من تسليمه، وهو ما وافق عليه مالك الشركة بالقول: "تعليماتك يا فندم".

إن لم تر في كل هذا فسادا، فتأمل قوله باستحسانه موقف وزير الكهرباء والإشادة به؛ باعتبار أن شركته تعمل مع وزارة الكهرباء مجانا: "عايز أقولكم النقطة اللي هقولها دي يمكن الدكتور شاكر (وزير الكهرباء) لقاها مش مناسبة، الدكتور شاكر له مكتب وشركة كبيرة جدا اسمه مكتب شاكر، وأول ما قولنا له يجي معانا راح سايب الشركة دي، ولم يسمح لها بالدخول في شغل مع القوات المسلحة، أو مع الدولة المصرية كحكومة.. طب أي حاجة بيعملها لينا بيعملها دون مقابل، وأنا بصراحة حابب الحكاية دي".

مثل هذه التصريحات تؤكد أن مصر بعد تموز/ يوليو 2013 باتت ما بين "العزبة" التي تُدار و"العصابة" التي تدير و"العطايا" التي توزع فسادا وإفسادا؛ فمثل هذه السياسات التي تشهد التنازل عن مليار ونصف لمجرد كلمة "يا كامل" لا يمكن أن تعبر حتى عن عزبة، أما أن يتم إسناد المشاريع بالأمر المباشر فهو أمر يليق بالعصابات، بالإضافة إلى أن الشركات الاستثمارية التي تعمل بالمجان تعكس أن العطايا هي المسيطرة على الاقتصاد المصري في هذه المرحلة، وأنها حالة من الفساد المساند للاستبداد والمعبر عنه.

twitter.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (1)
حمدى مرجان
الأربعاء، 29-12-2021 04:02 م
الجيش يحصل علي المشروع بالامر المباشر ، لا مناقصة او مزايدة او دراسة جدوى ،هذه وسائل قديمة ومتخلفة عند السيسي ، ويقوم بحساب التكلفة علي اعلي درجات الجودة ، ويتم توزيعها من الباطن بسعر اخر علي صاحب التصيب او ترغيب او ترهبب ، او ما يحدث غالبا من مقاول الباطن في الدفع علي شكل عمولات واكراميات لمن اعطوه المشروع ، ودائما ما يقبل مقاول الباطن بشروطهم ، لانهم يحمونه من المسئولية والمسائلة والشروط الواجب توفرها واالتسليم والاستلام والرقابة والمتابعة ، فلا يوجد عقود او ضمانات ، ولولا هذا لما تكلف مشروع منهم نصف تكلفته ، وليس ابن خلدون فقط ، قال كذلك ابن جمعة في كتابه " التخصيص في فنون التعريص ’ ان اردت الخراب فعليك باللواءات فهم اهله ،وكنوز الجهل المطبق ، واستيكة العلم والمعرفة "