كتاب عربي 21

الحَلاَّف المَهِين

شريف أيمن
1300x600
1300x600
جاء في الزَّمَخْشَرِيِّ عند تأويل قول الله تعالى "وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ": "حلاف، كثير الحلف في الحق والباطل، وكفى به مَزْجَرَةً لمن اعتاد الحلف، ومثله قوله تعالى: "وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ". مهين، من المهانة وهي القلة والحقارة، يريد القلة في الرأي والتمييز، أو أراد الكذب لأنه حقير عند الناس". وهذه الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة، لكن المعلوم في قواعد تفسير القرآن، أن العِبْرَة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالنص القرآني لا يتم التعامل معه باعتباره خاصا بواقعة معيَّنة، بل تُورَد الوقائع لمعرفة أسباب النزول، لتُعِينَ على فهم النَّص، لكن الحكم أو التوجيه يكون عامّاً.

بناء على "عموم اللفظ"، فإننا نَشهدُ أحدَ مَن وَلِي أمر بلد كبير الحجم والمكانة، وهو لا يتحدث إلا حالفا، ويقسم على أمانته ونزاهته وشرفه، وأنه لا يهادي أحدا ولا يحابي أحدا، ثم نجده يوكل الأعمال بأمر مباشر منه، دون مراعاة لقواعد العدالة في الفرص، ولا قواعد النزاهة في إسناد الأعمال، كما نَجِدُه يتخذ القرارات المرتجلة على الهواء دون مراعاة لأرزاق الناس ومعايشهم، وحتى دون دراسة علمية لمردودات قراراته. وهذا تجسيد كامل لمعنى "مهين، أي لا يحسن الرأي والتمييز"، فضلا عن مهانته بمعنى القِلَّة أمام داعميه من النظم الغربية، والعربية التي تمده بـ"الأرز".

لقد أُسِرْتُ من معنى "قلة الرأي والتمييز" الذي ساقه الزمخشري، وذكره غيره من المفسرين. وكنت أفهم المهانة على معنى الحقارة فقط، لكن انضاف إليها معنى مرتبط بحقارة الرأي لا النفس، وربما أُسرت لأن المثال متجسّد أمامنا.
تتجسد قلة الرأي والتمييز في النفقات غير الضرورية على البنية التحتية في مقابل إهمال النفقات الضرورية على الصحة والتعليم

تتجسد قلة الرأي والتمييز في النفقات غير الضرورية على البنية التحتية في مقابل إهمال النفقات الضرورية على الصحة والتعليم، فنحن أمام منزل به حاجة إلى إصلاحات لكن سكان المنزل يغرقون في الجهل والمرض، وإذا بمَن أمسك بمقادير المنزل يقوم بطلاء الجدران والنوافذ، ليمدح الناظرُ من الخارج المنزلَ وهيئته، بينما سكانه في أشد أنواع البؤس، وانضاف لبؤسهم حُمْق المتصرف في أموالهم.

تتجسد قلة الرأي والتمييز، في هدم مأوى البسطاء لأجل مشروعات البنية التحتية دون تعويضات مناسبة، إما بتقليل القيمة السوقية للعقارات، أو بنقلهم إلى مساكن أضيق من المساكن التي كانوا يسكنونها، أو بعدم إعطاء تعويضات أصلا. وعمليات الهدم تحظى بقصص لا حصر لها، وللأسف لا يقدر صحفي على سبر أغوارها، لأن ترخيص وكالته سيُغلق قبل نشر مادته، وأصبح هذا البربري يشارك الاحتلال في تعامله مع المستعمَرين.

تتجسد قلة الرأي والتمييز ومعهما الحقارة في هدم المقابر على ساكنيها، فلم يسلم منه حي أو ميت، وهناك مقابر في شوارع كبرى هُدمت لا لأجل مشروعات، بل لمجرد بناء سور فقط حول المقابر، فرُميت أجساد استقرت واطمأنت في باطن الأرض منذ عقود طويلة حتى ولي أمر بلدهم ظالم غاشم دموي جاهل، كما هُدمت مقابر أو مساكن لأجل توسعة طرق، وأمامها منشآت عامة لوزارة الداخلية أو الدفاع، ولم يتم اقتطاع جزء من المنشآت العامة رغم أنها ملك لكل الشعب، وانتُزِعت الأراضي من أصحاب الأملاك الخاصة.

تتجسد قلة الرأي والتمييز في اعتماده الدائم على استنزاف البسطاء والأغنياء ماليا ليحقق أحلام الطفولة، التي لم يخرج منها بعد، فأصبحنا أمام دولة تعتمد على أكثر من ثلاثة أرباع أموال ميزانيتها من جبايتها، ولا تُنتج ما يجعلها دولة متطورة بحق.

تتجسد قلة الرأي والتمييز في رشوة الأنظمة الكبرى الداعمة له بشراء سلاح منها دون حرب مع عدو، بل هي مقدرات الشعب تُنفَق لأجل حاكم يبغي التشبث بكرسيه، ويوجّه هذا السلاح في النهاية إلى صدور المعارضين، أو إلى مدنيين لا ذنب لهم سوى أن هذا المستبد المجرم قرر أن يقتل جماعة ما لأجل استبقاء جذوة حربه على ما يسميه الإرهاب مشتعلة.
تتجسد قلة الرأي والتمييز في وضع أكبر وأهم مؤسسة وطنية في مواجهة أقوات الشعب، فلم تترك هذه المؤسسة الهامة بابا من أبواب الرزق لم تدخل فيه، حتى أصبحنا نرى اسمها على مطاعم أكلات شعبية مثل "الكبده والسجق"، وهي كارثة تحيق باستقرار وكفاءة هذه المؤسسة

تتجسد قلة الرأي والتمييز في وضع أكبر وأهم مؤسسة وطنية في مواجهة أقوات الشعب، فلم تترك هذه المؤسسة الهامة بابا من أبواب الرزق لم تدخل فيه، حتى أصبحنا نرى اسمها على مطاعم أكلات شعبية مثل "الكبده والسجق"، وهي كارثة تحيق باستقرار وكفاءة هذه المؤسسة. ويصعب أن تخدعنا المناورات العسكرية لتصوّر كفاءة مؤسسة ينشغل قادتها بالمال والأرباح وتحقيق الـ"Target" اليومي للمبيعات، وأصبحت لغة الشركات التجارية تسيطر على جزء كبير من مفردات قطاعاتها. وبالإضافة لتسبب هذا الانشغال بخفض الكفاءة الداخلية، فإنها كذلك صنعت عداوات مع قطاعات واسعة من التجار البسطاء قبل الأغنياء، لمقاسمتهم في أرزاقهم وعدم عدالة المنافسة؛ فهناك من يستفيد من الإعفاءات الجمركية والضريبية، ويسخّر شباب المصريين في خدمة شرهه لجمع المال بأجور زهيدة، في مقابل تجار يتعاملون بأسعار السوق وتعصف بهم النفقات التجارية بدءا من الفواتير، وانتهاء بالرشاوى التي تغلب على أعمال كثيرة.

تتجسد قلة الرأي والتمييز في ترك الأراضي الشمالية الشرقية يدخلها العدو التاريخي للوطن، في حين أن أبناء الدم والعروبة تُغلق أمامهم المعابر، ويُعتَقل بعض الداخلين إلى الوطن المنكوب بهذا الحاكم.

هذا البلد المذكور، ابتُلي بحاكم لا يفقه من أمور الدنيا ولا الآخرة شيئا، لكنه يعتاد الحلف لتأكيد صدقه وشرفه وأمانته، وهنا نستذكر، مرة أخرى، قول الزمخشري عن سبب تكرار المَهين للحلف: "أراد الكذب لأنه حقير عند الناس".

twitter.com/Sharifayman86
التعليقات (1)
الكاتب المقدام
الثلاثاء، 28-12-2021 02:30 م
*** لم نفهم سبب لجوء الكاتب إلى التورية في مقالته عن "ولي أمر بلد كبير الحجم والمكانة"، وخجله وتحرجه من ذكر اسمه وصفته، فهو السيسي الذي ذاعت شهرته في الآفاق، الجنرال الدجال المنقلب على رئيسه الشرعي المنتخب من شعبه، والدجل حسب المعجم الوسيط هو "دَجَلَ ـُ دَجْلاً: كذب ومَوَّه وادَّعى، فهو داجل، ودَجَّال: جمعها دَجاجِلة . ودَجَّلَ الحقَّ: لَبَسَه بالباطل، والدَّجَّالُ: الكذَّاب المموِّه المدَّعي."، وأما في الاستخدام المعاصر للكلمة كما يفهمها عامة الناس، فالدجال هو النْصْاب الذي يخدع الناس بكلام أقرب إلى الهذيان والتخريف، ولكن يصدقه السفهاء وصغار العقول وينخدعون بقائله، فأمر الدجال ليس بعجيب، ولكن العجب العجاب هو أمر اتباعه المخدوعين فيه، كقول كبير من كهنة أقدم طوائف مصر: "أموت عشق فيه"، وأما حديث الكاتب عن "البلد كبير الحجم والمكانة" فكبر حجم مصر في جغرافيتها وعدد سكانها أمر معروف، أما كبر المكانة لبلد فهي تستمد من علو شأن أهلها وشعبها، وبعيداً عن الفخار الوطني والقومي الكاذب، فإن تأييد الدجال السيسي من ملايين من سفهاء الشعب المصري قد حط من مكانتهم، وسيعلمون قريباُ مغبة ومآل سفههم، كما حدث لآبائهم من قبل في هزيمة 1967 عندما خدعوا بدجاجلة انقلاب 1952، والله أعلم.