قضايا وآراء

"عيد الثورة التونسية": موعد لحلّ الأزمة السياسية أم لتعميقها؟

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
منذ يوم 25 تموز/ يوليو الماضي، وبصرف النظر عن الاختلافات المعلومة في توصيف "الإجراءات الرئاسية" (انقلاب/ تصحيح مسار)، كان من الواضح أن تونس قد دخلت مرحلة "عودة المكبوت الاستبدادي"، وهو مكبوت متعدد تتقاطع فيه مصالح مادية ورمزية تتجاوز المحلي إلى الإقليمي والدولي. فالانتقال الديمقراطي - على هشاشته ونقائصه - كان قد عصم تونس من مآلات الثورات العربية التي تراوحت بين الانقلابات العسكرية والحروب الأهلية.

ولكنّ محافظة الثورة التونسية - رغم كل القوى الانقلابية الداخلية ورعاتها في محور الثورات المضادة - على المنجز الديمقراطي في المستوى السياسي لم يصحبه منجز اقتصادي واجتماعي؛ يعطي للأجسام الوسيطة في الديمقراطية التمثيلية (خاصة الأحزاب ومؤسسة البرلمان) مشروعية تجعلها تُتَونس السيناريو التركي (بناء جبهة وطنية شاملة أساسها تحرك شعبي عفوي لإسقاط الانقلاب).

وإذا كان الانقلاب نفسه قد وجد نفسه عاجزا - لأسباب ذاتية وموضوعية - عن تَونسة السيناريو المصري على الأقل إلى حدود كتابة المقال، فإن المستجدات السياسية الأخيرة، وأساسها إصرار الرئيس على نقل الصراع مع خصومه من المستوى السياسي إلى المستوى الأمني- القضائي، تجعل هذه الفرضية ممكنة، خاصة إذا طرحها الرئيس في إطار "حزمة" من الإجراءات المتوقعة يوم عيد الثورة - أي يوم 17 كانون الأول/ ديسمبر القادم - وهو التاريخ الذي اختاره الرئيس لتعويض عيد الثورة الأصلي خلال العشرية الماضية، أي يوم 14 جانفي (كانون الثاني/ يناير).
إذا كان الانقلاب نفسه قد وجد نفسه عاجزا - لأسباب ذاتية وموضوعية - عن تَونسة السيناريو المصري على الأقل إلى حدود كتابة المقال، فإن المستجدات السياسية الأخيرة، وأساسها إصرار الرئيس على نقل الصراع مع خصومه من المستوى السياسي إلى المستوى الأمني- القضائي، تجعل هذه الفرضية ممكنة

بصدور الأمر عدد 223 لسنة 2021 المؤرخ في 7 كانون الأول/ ديسمبر 2021 والذي يتعلق بضبط أيام الأعياد في الرائد الرسمي للبلاد التونسية، تم اعتماد يوم ١٧ كانون الأول/ ديسمبر رسميا عيدا للثورة. وتكمن أهمية هذا الأمر في أنه يعكس الفهم الرئاسي لمعنى "تصحيح المسار" ومكافحة الفساد، كما يعكس منطق الرئيس في الإدارة الأحادية لحالة الاستثناء وتوظيفها من أجل إعادة هندسة الذاكرة الجماعية تمهيدا لتنزيل مشروع "الديمقراطية القاعدية". فتصحيح المسار هو تصحيح لمسار الانتقال الديمقراطي ورمزياته التي كانت محل توافقات "انتهازية" من لدن النخب المهيمنة على السلطة منذ هروب المخلوع، أو منذ "الانقلاب" على المسار الثوري يوم 14 كانون الثاني/ يناير 2011.

إن تصحيح المسار من هذا المنظور ليس اشتغالا على الوقائع/ الآثار فقط، بل هو قبل ذلك كله اشتغال نقدي على الأسباب أو المقدمات التي أدت إليها، أي هو اشتغال على الذاكرة الجماعية وما يشكلها من رمزيات، وهو أيضا نقد خفي للأطراف التي كانت وراء تلك الذاكرة "المزيفة"، ومحاولة لإضعاف مواقعها التفاوضية خلال هذه المرحلة وبعدها، وتكريس للسردية الرئاسية التي ترى في الرئيس تجسيدا حقيقيا للإرادة الشعبية ولروح الثورة واستحقاقاتها؛ دون غيره من الخصوم أو الحلفاء.

أما من جهة علاقة هذا القرار بمكافحة الفساد، فإن الإدارة الأحادية لحالة الاستثناء ورفض أي حوار وطني حتى مع الأطراف المساندة لإجراءات 25 تموز/ يوليو، تؤكد أن الرئيس يطرح نفسه بديلا لكل النخب التي أدارت الانتقال الديمقراطي وأشرفت على بناء مؤسساته، أي بديلا لكل النخب والأجسام الوسيطة التي "انقلبت" على الثورة أو رضيت بالانقلاب عليها يوم 14 كانون الثاني/ يناير 2011.

فالفساد من منظور الرئيس ليس فساد "أعيان" بل فساد "أذهان"، أو لنقل هو فساد العقل السياسي الذي أدار المرحلة السابقة في إطار الديمقراطية التمثيلية والنظام البرلماني المعدل، وبوساطة الأحزاب وغيرها من الأجسام الوسيطة. وإذا ما فهمنا هذه المقدمة، يصبح استئثار الرئيس بإدارة حالة الاستثناء ورفض الحوار حتى مع الكيانات السياسية والنقابية والمدنية المساندة له؛ أمرا مفهوما، ويكون تغيير عيد الثورة أمرا منطقيا بحكم موقف الرئيس المعلوم من الديمقراطية التمثيلية وكل أجسامها الوسيطة، وبالتالي موقفه الرافض لكل توافقاتها التي مأسست الثورة بصورة مخالفة للإرادة الشعبية.
إذا ما فهمنا هذه المقدمة، يصبح استئثار الرئيس بإدارة حالة الاستثناء ورفض الحوار حتى مع الكيانات السياسية والنقابية والمدنية المساندة له؛ أمرا مفهوما، ويكون تغيير عيد الثورة أمرا منطقيا بحكم موقف الرئيس المعلوم من الديمقراطية التمثيلية وكل أجسامها الوسيطة، وبالتالي موقفه الرافض لكل توافقاتها

كنا في مقالات سابقة قد أوضحنا أنّ استهداف الرئيس لحركة النهضة هو خيار فرضه السياق، وأنّ الرئيس كان سيستهدف أي حزب "علماني" أو "حداثي" كائنا ما كان؛ لو أنه وجد نفسه في سياق سياسي مختلف، وهو ما يعني أن حركه النهضة كانت وما زالت "الموضوع المتاح" لا "الموضوع المقصود". فالنهضة هي الجسم السياسي الأقوى في الديمقراطية التمثيلية وفي نظامها البرلماني المعدّل، ولا يمكن لمشروع الديمقراطية القاعدية أن يتجنب التصادم معها، لا لأنها "حزب إخواني" كما يظن الكثير من أنصار الرئيس الذين يحسبون أن التقاطع معه في عداء النهضة سيجعلهم في مأمن من "صواريخ الرئيس" ولو بعد حين، بل لأن النجاح في إخراجها من دائرة الفعل السياسي سيمهد لإعادة هندسة الحقل السياسي بصورة تجعل من الأجسام الوسيطة كلها - في أفضل الأحوال - مجرد ملحات وظيفية بقصر قرطاج، أو تلغي الحاجة إليها في نظام لا يعترف بأية وسائط بين "الشعب" و"الزعيم"، اللهم إلا تلك الوسائط التي تشرف على "تفسير" الحكمة الخفية في قراراته.

رغم أن الاتحاد العام التونسي للشغل هو بالأساس منظمة عمّالية، فإن دوره السياسي المتضخم بعد الثورة قد جعل منه فاعلا أساسيا في أغلب المحطات التي عرفتها تونس منذ أشغال "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي"، ومن بعدها أشغال المجلس التأسيسي والحوار الوطني الذي أسقط الترويكا الحاكمة، وخلال مرحلة التوافق وأزماتها المعروفة بين شقوق "حركة نداء تونس". ورغم إنكار المركزية النقابية لدورها في ما تسميه بـ"العشرية السوداء"، بحكم أنها كانت شريكا اجتماعيا لكل الحكومات المتعاقبة، فإن تقاطعها الموضوعي مع الرئيس - بصورة مطلقة في الأيام الأولى للانقلاب وبصورة نقدية بعد ٢٢ أيلول/ سبتمبر والمرسوم عدد 117 - يجعل من تصعيدها الأخير تجاه رئيس الدولة حدثا مهما في تحديد الخيارات الرئاسية القادمة.

لقد طرحت المركزية النقابية "خيارا ثالثا" هو في جوهره تعبير عن مساندة نقدية لإجراءات 25 تموز/ يوليو، أي اعتراف بشرعية الحدث ذاته وانخراط في استراتيجية الرئيس الرافضة لعودة البرلمان، والمنحصرة أساسا في الاستهداف الأمني- القضائي لحركة النهضة وحلفائها. لكن المركزية النقابية عبّرت في الآن نفسه عن رفض صريح لمشروع الديمقراطية القاعدية، ولمنطق الإدارة الأحادية لحالة الاستثناء الذي كرسه المرسوم 117 بتاريخ 22 أيلول/ سبتمبر الماضي دون أي تسقيف زمني. ويبدو أن الرئيس سيجد نفسه مضطرا يوم عيد الثورة لتوضيح علاقته بحلفائه قبل خصومه.

فمواصلة الانفراد بالسلطة والإصرار على تجاوز "المشترك الانقلابي" (أي الاستهداف الحصري لحركة النهضة وائتلاف الكرامة وقلب تونس، دون تهديد باقي الوسائط الجماعية في "الأحزاب الديمقراطية" والمجتمع المدني والنقابي)؛ سيجعل من الاتحاد قاطرة للأحزاب "الصديقة" (مثل ترويكا التيار والجمهوري والتكتل) ولمكونات المجتمع المدني التي ستتحول إلى بديل لـ"مواطنون ضد الانقلاب"، ولكن يكون هدفها العودة إلى الحياة الديمقراطية في النظام البرلماني المعدل، بل تحقيق انتظارات تلك الأطراف من 25 تموز/ يوليو ولو استدعى ذلك مواجهة الرئيس نفسه.

أمام هذا الضغط، وانطلاقا من غياب أي بوادر انفراج في علاقة الرئيس بالنهضة وحلفائها، يبدو أن حاكم قرطاج سيجد نفسه مضطرا لأحد خيارين: إما التخفف من جزء من مشروعه والقبول بدور الشريك لحلفائه من القوى الانقلابية (الاكتفاء بالنظام الرئاسي بعد إعادة هندسة المشهد السياسي بصورة "توافقية" مع "القوى الديمقراطية")، وهو ما يعني واقعيا الخروج من سردية البديل وما سيؤدي إليه من إضعاف لشرعية الرئيس ومصداقيته داخل النواة الصلبة من أنصاره، وإما المضي في مشروعه السياسي مع ما يعنيه ذلك من خسارة نهائية لحزامه السياسي والنقابي والمدني؛ الذي ما زال "يفاوض" ويضغط لتعديل مسار "تصحيح المسار" داخل حدود "المشترك الانقلابي".

وإذا ما اختار الرئيس دور الشريك لتفتيت المعارضة وضمان موقع في مخرجات أي حوار وطني منتظر (وهي فرضية راجحة)، فسيكون عليه أن يطرح "حزمة" من الإجراءات التي تنهي "حالة الغموض"، كما وصفها الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل.
إذا ما اختار الرئيس "مشروعه" ورفض الإصغاء لمطالب المركزية النقابية وحلفائها في المجتمعين السياسي والمدني (وهي فرضية مرجوحة)، فإن الرئيس لن يساهم في توحيد كل الأطراف المعارضة (لاستحالة ذلك على الأقل في المدى المنظور)، ولكنه سيجد نفسه دون أي سند خارج "القوة الصلبة" التي توفرها له المؤسستان العسكرية والأمنية

ليس الغموض المقصود - في خطاب القوى الانقلابية - هو فقط غموض وضع الديمقراطية التمثيلية، ولا غموض الوضع الاقتصادي وواقع الحريات الفردية والجماعية، بل هو أساسا غموض وضع تلك القوى في مشروع الرئيس الذي ما زال مصرا على إقصائها من إدارة حالة الاستثناء وتحديد مخرجاتها، وغموض مستقبل "العدو المشترك"، أي حركة النهضة وحلفائها.

أما إذا ما اختار الرئيس "مشروعه" ورفض الإصغاء لمطالب المركزية النقابية وحلفائها في المجتمعين السياسي والمدني (وهي فرضية مرجوحة)، فإن الرئيس لن يساهم في توحيد كل الأطراف المعارضة (لاستحالة ذلك على الأقل في المدى المنظور)، ولكنه سيجد نفسه دون أي سند خارج "القوة الصلبة" التي توفرها له المؤسستان العسكرية والأمنية، وهو ما سيضعفه داخليا وخارجيا، وقد يخرجه من دائرة السلطة، لكنه لن يُخرج البلاد من دائرة الأزمات السياسية الدورية، لغياب أي مشروع وطني جامع لكل النخب بمختلف انتماءاتها.

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (0)