قضايا وآراء

نَهرُ الحياة.. واستراتيجياتُ القوةِ ونظريَّاتُها

علي عقلة عرسان
1300x600
1300x600

الحياة نهر عظيم، تيَّاره جارف يتحدى السدود والقيود، ولا تتسع قدرة بشرية على استيعاب ما فيه من تنوع وألوان، وما لـه من خصوصيات وأبعاد وأغوار. ومن يزعم أنه قادر على استيعاب ما يحمله ذلك النهر العظيم من تنوع وتفاصيل ومعطيات ظاهرة وخفية، ومن ثم على وضع نظام شامل له، يضبط الحياة ويحكمها ويصلحها ويكون مناسباً لكل ألوان الطيف وكل البشر وكل الأوضاع فيها، ومِن ثم يقنن كل ما يمكن أن تزخر به من قدرة على الإبداع ورغبة مستمرة في التغيير، متيقناً من أن ما يضعه فيه ضمان الأمن والكفاية والراحة والسعادة للناس كافة، ولا نقول إنه يوفر لهم الحرية والمساواة والأمن من جوع وخوف، من يزعم ذلك يعش وهماً ويبالغ في نشره. 

وربما كان من أسوأ نماذج الحمقى في التاريخ أشخاص لهم حاشية من المروجين، يغتر بهم العقلاء فضلاً عن الجهلاء، وينتج عن تنظيرهم وادعائهم العصمة أخطاء وشرور وجرائم ودمار وموت وكوارث، تجعل نهر الحياة عكراً مشوباً بالدم البشري وبأشكال من موت الروح والبيئة ينعكس موتاً في مجراه.. مجرى الحياة. 

الحياة أكبر وأغنى وأعظم وأقوى من أن تُلجَم بلجام عقل بشري أو تُفرَض عليها إرادة مطلقة لبشر، وهي تضم القدرات الإبداعية لكل المخلوقات، وتحركها الإرادة العليا التي تكمن وراء الكون والخلق والطاقة المتجددة في كل المخلوقات، وهي أكبر وأقوى من كل العقول والإرادات، ويكتسح نهرُها السدودَ في ساعات صحو وساعات غفلة من أولئك الذين يزعمون أنهم يضبطون إيقاعه تماماً. فكيف لمخلوق أن يضع ذلك الوهم كله في قبضته ويعيش فيه، ويدعي السيطرة وأنه السيد، انطلاقاً من ادعاء عريض بعنصرية غبية، وفهم أرقى لا يملكه سواه، ويزعم أنه يخدم مصلحة الشر بما هو أفضل مما يستطيعه البشر كلهم؟. 

في الحياة خلق يفهمون مصالحهم بصورة أفضل بكثير ممن يدعون تدبير شؤون الخلق، وتأسيس نظام لهم لا يأتيه الباطل، وهم محجوبون عن الحق والخلق بستار كثيف من الوهم والغطرسة وادعاء امتلاك عبقرية تحكم الزمن والحياة والبشر. أزعم أنه لا يقدم على هذا الادعاء إلا حمقى الناس، ولا يتبعهم بتعصب عُصابي أعمى إلا من هو أشد حمقاً منهم.. وما أكثر أولئك وأشدهم تعصباً وعدوانية في من عرفت وسمعت وشاهدت وقرأت. 

ما من شك في أن كل نظام بشري يشوبه القصور لأنه منتَج عقل بشري لا يتمتع بالكمال المطلق، وكل مصلح اجتماعي جدير بهذا الاسم، يعرف هذا ويراجع نفسه ونظريته ويقر بقصور أو إفلاس، ويستشعر الخطأ وينبه إلى قدرة العلم والخلق على تجاوزه بالعلم والبحث والتواضع.. وهذا ينطبق على المصلحين الحقيقيين وليس على منظرين حمقى، أو منظرين أصيبوا بأتباع حمقى يزعقون بما لا يفقهون، يزعمون أن علمهم هو العلم.. وأنهم فصَّلوا للناس والحياة "ثوباً أبدياً" ذا قماش لا يبلى وطراز لا يَقْدُم.؟! وهذا لا يصمد أمام المتغيرات والمنطق والعلم والحياة. فكم من النظريات سببت كوارث، وتجاوزها العلم والزمن وثبت عدم واقعيتها.. وما زال هناك على سفوحها الذاوية النبت من يرعى الوهم ويجترَّه.  

وعلينا ألا نستغرب، والحالة هذه، بقاء نظريات ميتة من دون دفن تنشر ما تنشره في فضاء الحياة من سموم، ويزعم أتباعها أنها دواء لكل داء، وأنها تجُبّ كل ما سبقها من نظريات وعقائد وديانات..إلخ. 

 

ربما كان من أسوأ نماذج الحمقى في التاريخ أشخاص لهم حاشية من المروجين، يغتر بهم العقلاء فضلاً عن الجهلاء، وينتج عن تنظيرهم وادعائهم العصمة أخطاء وشرور وجرائم ودمار وموت وكوارث، تجعل نهر الحياة عكراً مشوباً بالدم البشري وبأشكال من موت الروح والبيئة ينعكس موتاً في مجراه.. مجرى الحياة.

 



في لقاء مع زملاء في اتحاد الكتاب الصينيين في بكين كان لنا حديث جاد حول النظريات وذلك النهر العظيم.. نهر الحياة، وطواف في بعض الزوايا المعتمة للنظريات والممارسات المؤلمة التي نتجت عنها أو تمت باسمها، فقد كان عندهم ثورة ثقافية عانوا منها الكثير، ونظرية لم ينتقدها أحد مدة عقود، ولم توجه انتقادات جادة لأخطاء وممارسات في إطار اهتمامها مدة عقود من الزمن أيضاً، مما خلف الكثير من المصائب، فدفعوا جميعاً ودفع سواهم ثمناً باهظاً لاعتبارها من دون أخطاء والأخذ بها علماً مطلقاً وواقعية بلا ضفاف، على الرغم من طوباويتها ووضعها الحياة في قبضة رجل يقود الرجال من مخاطمهم، بديمقراطية هي الدكتاتورية المطلقة، بهدف تصنيع ديمقراطية بعد القضاء على الناس؟!.

ولتقريب الصورة تبياناً لوجهة النظر استعرت الـ " يانغ تسي" وهو من أعظم أنهار العالم، وأعظم نهر في الصين يبلغ طوله 6300 كيلومتر، وتبلغ مساحة حوضه مليون وثمانمئة ألف كم مربّع، ويهب الكثير من الصينيين الذين يعيشون حول مجراه معظم مقومات الحياة، وحين يفيض يغرق الكثيرين منهم، ويدمر بعض حوضه الذي كوَّنه، استعرته مثالاً لأقول: هل يمكن وضع مثل ذلك النهر العظيم في زجاجة؟ وهل يمكن ضبط نهر الحياة في نظرية كما تضبط بعض الأنهار بالسدود؟! 

إن النظرية التي توضع لضبط نهر الحياة العارم، النهر البشري المتدفق عبر امتداد الزمن في شرايين الوجود، تكاد تشبه محاولة وضع "يانغ تسي" في زجاجة، وهذا لا يمكن أن يدوم بفرض تحققه، فضلاً عن أنه لا يخدم الحياة بل يحد من تدفق الإبداع فيها وضرورته لها. 

فهل يمكن أن يكون ذلك وهل يمكن أن يستمر، وهل يمكن أن يتجدد بأشكال مختلفة، ويسوَّق بأشكال مختلفة أيضاً؟! 

سؤال طرحته على نفسي وعلى محدثي في معرض تناولي لأية نظرية تزعم العصمة والشمولية وسعة الرؤية لتشمل العالم، بينما تتسع الخروق في أضيق دوائر تطبيقها، ويشعر حتى أقرب المسلِّمين بها والمتبعين لها بضغط حلقتها التي تضيق على أعناقهم، وبالخروق التي تكثر في ثوبها الذي يحاولون مداراة عيوبه، وهم يرتدونه ويشعرون بتلك العيوب ويحاولون ترقيعها.. فلماذا يفعل الإنسان هذا، ولماذا تتجدد تلك المحاولات وتكبد البشرية المزيد من الخسائر والمعاناة وضرائب الدم ؟! 

ها نحن بعد تهاوي تلك النظرية الشمولية، إعطاء أولوية لاقتصاد السوق بقيمه وأخلاقه والسلوك الذي يمليه ونتائجه، والتراجع عن تقديم الأولوية للمبادىء التي سادت خلال عقود من الزمن الماضي، يأتي رؤساء للولايات المتحدة الأميركية على قدر غير يسير من الصلف من أمثال جورج دبليو بوش وترامب وبايدن، وغيرهم في دول كبرى تسير على النهج ذاته، ويريدون وضع العالم في " زجاجة"، ليحكموا نهر الحياة؟! 

وإذا كان نهب العالم والدعوة للسيطرة عليه، واحتلال بعض بلدانه بشكل مباشر أو غير مباشر، وإدخاله في الفتن والمذابح والحروب بالوكالة، من خلال السيطرة على الإرادة والقرار، بوسائل على رأسها الابتزاز والتهديد وإفساد الذمم والمبادىء، وتهديد المصالح باسم تبادل المنافع، وتنصيب واجهات سياسية يتم من خلالها الفتك بالشعوب ونهب ثرواتها.. إذا كانت تلك هي استرتيجيات الدول الكبرى وهدف النظريات فإن العالم سيعيش في التوحش وتحكمه القوة وقانون الغاب. 

 

كل نظام بشري يشوبه القصور لأنه منتَج عقل بشري لا يتمتع بالكمال المطلق، وكل مصلح اجتماعي جدير بهذا الاسم، يعرف هذا ويراجع نفسه ونظريته ويقر بقصور أو إفلاس، ويستشعر الخطأ وينبه إلى قدرة العلم والخلق على تجاوزه بالعلم والبحث والتواضع..

 



أما بشأن العلاقة مع الحضارة العربية ـ الإسلامية، والموقف منها ومن المسلمين المستهدفين.. فهدف معظم تلك القوى، إن لم نقل كلها، إضعاف الأمة وتفتيتها، وتصفية حضارة وعقيدة وأمة، لتنهي صراعاً قديماً معها تسميه حرباً مقدسة. وهل يرمي ذلك إلى أكثر من تجريد هذه الأمة من كل ما يمكن أن تملكه من علم وعقول وإرادات وأموال وثروات تحمي بها نفسها وتدافع بها عن وجودها ومقدساتها؟! والسؤال المطروح علينا" كيف نحمي أنفسنا وعقيدتنا وحضارتنا في تلك الغابة المتوحشة وقانونها الدموي؟!
 
إن ما ينتظر العالم والحضارة والثقافة على يد امبراطوريات القوة المتوحشة والشر المتمكن، سوف يكون أشد ضرراً على الحياة والأحياء والحضارات من كل ما قامت به الديكتاتوريات والنظريات البائسة عبر التاريخ.. ولكنه لن يوقف نهر الحياة العظيم، ولن يحكمه أو يشكمه، فذاك أكبر من كل نظريات البشر واستراتيجات القوة العمياء. 


التعليقات (0)