مقالات مختارة

قصيدته الأولى

سمير عطالله
1300x600
1300x600

كان في التاسعة عمره. عاد شقيقه الأكبر من نزهة مع رفاقه في جوار البلدة، إهدن، وراح يروي لإخوانه متعة المغامرة في أعالي الجبال. ولما شعر بمدى اهتمام سامعيه، قطع الحكاية على طريقة ألف ليلة وليلة، وقال للمتشوقين الصغار: أكمل لكم الحكاية مساء غد. ونام الجميع على مضض مستوعدين أنفسهم بالغد.


صباح اليوم التالي على وفاة فتى البيت وبكر العائلة، «كان سؤالي الأول عندما رأيت الموت والأم تنوح وتنتحب من أحرف قليلة: لماذا؟». بهذا المشهد يبدأ الشاعر عيسى مخلوف رواية سيرته الذاتية على شكل حوار مع الكاتب والناشر العراقي علي محمود خضير (دار الرافدين). ولست ممن يميلون إلى هذه الطريقة في سرد السيرة. ولكن بعد قراءة «ضفاف أخرى» لهذا المثقف العربي المعتبر، أُعلن ندمي.


يستكمل الشاعر ذلك المشهد والأم النائحة، التي بالضحك والفرح، لكي لا تنقبض قلوب أبنائها الآخرين: «ولقد بلغ تعلقها بأبنائها الباقين حالة مَرَضية، هي التي خربت نومي. كنت أستيقظ في الليل فجأة وأراها فوق رأسي تماماً، وهي تبتسم ابتسامتها تلك، كانت تريد التأكد مما إذا كنت لا أزال حيّاً». يسافر الابن إلى باريس للدراسة. وكل صيف يعود إلى بلدته. أين هي الأم؟ «كانت تخرج صباحاً إلى الحديقة وتطارد العصافير، وهي تتوسل إليها كي تبتعد لكي لا توقظ ابنها النائم. كانت تصرفاتها تبدو لي كأنها قصيدتي الأولى».


سوف تظل الطفولة قصيدة الحياة. يقول لمحاوره: «تنتهي الطفولة بصفتها مرحلة من حياتنا فحسب. لكنّ أثرها يبقى قائماً فينا باستمرار. يسعى بعضنا لئلا يقطع حبل السرّة مع الطفولة. المنشغلون بالإبداع وأصحاب المشاريع الإبداعية لا وقت لديهم كي يشيخوا. هكذا يتوهمون. لكنه الوهم الجميل حقاً».
قبل انتهاء الطفولة، يتعرف الشاعر إلى الموت الخاص، الحميم. وقبل بداية الشباب تنفجر أمامه مساحات وآفاق الموت العام. وهنا هي ليس وفاة إلى رحمة الله، بل قتل واغتيال وجرائم جماعية، أكثرها مدفوع الثمن مثل أسواق الجزارين.


«الحرب مرضعة العالم» يقول عيسى مخلوف في ديوانه «عين السراب»، ويضيف في حديثه مع محاوره «العالم يقوم على صراع قوى. البشر ديوك آدمية تتصارع. تنتهي حرب هنا فتبدأ حرب هناك (...) على الرغم من التقدم العلمي الهائل، لا يزال العالم اليوم على المستوى الإنساني تحديداً، كأنه لم يخرج من العصر الحجري».

 

(عن صحيفة الشرق الأوسط السعودية)

1
التعليقات (1)
أبو العبد الحلبي
الجمعة، 01-10-2021 05:08 م
مقال الأستاذ سمير عطا الله رائع كالمعتاد . كنت أتابع مقالاته منذ زمن بعيد حين كان يكتب في صحيفة النهار و في مجلة الأسبوع العربي . ما كان يعجبني في مقالاته ، قدرته الفائقة على عرض أفكار كبيرة عميقة بكلمات قليلة حيث البلاغة الإيجاز "كما يقولون" . أحياناً ، أقرأ جملة كتبها ثم أعيد قراءتها فتتولد في الحالتين معاني جديدة و هذا ثراء فكري في مقالاته . عند قراءة هذا المقال ، يتخيل للقارئ أنه يتحدث عن أمه الحنونة الحريصة على أطفالها و هذا كان في الزمن الجميل – أي خمسينيات و ستينات القرن الماضي – يتجسد في قول الشاعر حِطّان بنِ الْمُعَلَّي الطَّائِي (وإنّـمــا أولادُنــا بيننـــا **أكـبــادُنـا تمشــي علــى الأرضِ. لو هَبّتِ الريحُ على بعضهـم **لامتنعتْ عيـني من الغَمْضِ) ثم إن فيروز الرائعة جاءت فغنَت للطفلة ريما (ياللا تنام ريما ياللا يـجيها النوم** ياللا تحب الصلاة ياللا تحب الصوم . ياللا تجيها العوافي ** كــــل يوم بيوم . ياللا تنام يللا تنام ** لاذبحلا طير الحمام . روح يا حمام لا تصدَق ** بضحك ع ريما لتنام). هذا الدفء و هذه المشاعر و هذا الحنان الفيَاض من الأم نحو طفلتها ريما مثلاً ، أتى الفراعنة المفسدون في الأرض ليزيحوه و يقوموا بإحلال معايير و موازين أخرى تهدم العلاقات الأسرية بل و تهدم الأسرة ليكون البديل أقارب أنانيون متفرقون متنازعون يغنَي كلَ على ليلاه . لم يعد في زمننا هذا من حق الأب و الأم تربية ذريتهم و إنما صار الحق للأغراب الذين سعوا للاستحواذ على كل ثروة و من ضمنها الثروة البشرية . زرع الأغراب بوسائل شتى في أذهان الناشئة أن "بابا و ماما دقَة قديمة " ، و زرعوا أيضاً في أذهانهم أنهم يعلمون و يفهمون أكثر . صار ليس غريباً أن تكتب طفلة ساذجة لأبيها الأستاذ الدكتور "أنا أدرى بمصلحتي منك و أنا أعرف أكثر منك " . لقد كان هؤلاء الأغراب حقاً مفسدون في الأرض ينتظرهم قانون العدل الإلهي في الدنيا قبل الآخرة. ثم إن الأستاذ سمير عطا الله ختم المقال بفقرة تحدثت عن "صنًاع الحروب" بين البشر هؤلاء الذين استغلوا التقدم العلمي الهائل للإفساد في الأرض و للاستعلاء . ما يغيب عن كثير من الناس أن التقدم العلمي كان عبارة عن الغطاء الذي حجب عن بسطاء الناس أو السطحيين بشاعة من يمتلكون نواصي العلوم و التكنولوجيا . عالم هؤلاء متقدم في مجال و متخلف تخلفاً هائلاً في مجالات أهمَ للإنسانية . لتسهيل الموضوع ، قد تزور متحفاً في بلد متقدم صناعياً فتعجبك المقتنيات و طرائق عرضها و التقنيات المستعملة في المحافظة عليها لكن هل تعلم يا عزيزي أن هذه المقتنيات هي في الأساس سرقات مورست حول العالم من أقوياء على ضعفاء في غالبيتها ؟ أي أن المتحف نفسه شاهد حيَ على لصوص .