مقالات مختارة

ماذا فَعَلت في أفريقيا

سمير عطالله
1300x600
1300x600

تتحدث قريبتنا العزيزة عن أفريقيا وكأنها «وطنها المتواصل». تمضي الصيف في بلاد الرجل الأبيض؛ لبنان وفرنسا وإسبانيا، وفقاً لخريطة الأحفاد، والشتاء في نيجيريا والكونغو والضفة الأخرى من النهر، برازافيل، وفقاً لخريطة الأبناء. عالم الرجل الأسود. القارة السمراء تؤمن الجاه، وشواطئ المتوسط تؤمن الرفاه.


بين أفريقيا والدها في الخمسينات، وأفريقيا أبنائها وأحفادها، نقلة من الطبيب الساحر والتعاويذ ولحاء الشجر، إلى المستشفى والأشعة القادرة على التمييز بين الشريان وظله. عملت القريبة العزيزة في التدريس، وزوجها في المعادن، صفراء وبيضاء ونحاسية. والحمد لله. وبينما كان رجال العائلة يطفقون في الأدغال والغابات والطرق الترابية، كانت هي في البيت تقرأ كل ما تجمع على رفوف الدار من كتب عن القارة. قرأت جوزف كونراد، وقرأت غراهام غرين، وقرأت نايبو وألبرت شفايتزر.


سألت القريبة الأديبة مَن مِن منهم أعجبتك كتاباته أكثر من سواه؟ قالت بكل جديّة: أولادي. الكتّاب كانوا يحاولون شرح أفريقيا لقراء لا يعرفونهم. أولادي كانوا يشرحونها لي.


تقول القريبة العزيزة إن الرجل الأبيض ظلم أفريقيا، لكن الزعيم الوطني التهمها. حريّة أسوأ من الاستعمار. مستعمر قليل الشفقة، ووطني عديمها. تعطي أمثلة كثيرة. الرقيب أول جوزف موبوتو في الكونغو، الذي قلد حرفياً ليوبولد ملك البلجيك. ونهب من بلد مدقع 5 مليارات دولار. ومثل ليوبولد كان يقطن في ثكنة عسكرية. ووضع أفكاره في كتاب أخضر. وكان معجباً بكارل ماركس، لكن الأفضل للكونغو تطبيق الموبوتية؛ إنها الحل لكل القضايا.


ازرع اليوم واحصد غداً، كان يعظ موبوتو مرة، في ولاية كيسنغاني الخضراء. وكان هناك خبراء أوروبيون. وعندما انتهى، سألهم رأيهم في عبقريته، فقال له أحدهم؛ كم هذا صحيح يا حضرة الإمبراطور. وبالقليل من الجهد الإضافي تستطيع كيسنغاني أن تطعم القارة برمّتها.


تقول القريبة الأديبة إن المستعمر أهلك أفريقيا بالعبودية، والوطني دمرها بالخداع والألفاظ الفارغة والفقر، وترك الناس لنفسها ونشر الفساد، واستولى العسكريون على السلطة، لكنهم سرقوا رواتب الجنود ورجال الأمن والمعلمين. حاول المستعمر بناء دولة تخدمه، والوطني تعطيه عصا المارشالية وشهادة دكتوراه. كان الرئيس الغاني كوامي نكروما أول من أضاف اللقب وبعده أصبح إلزامياً.


تبدو القريبة العزيزة وكأنها أمضت هذه السنوات في أفريقيا لدراستها كخبيرة اجتماعية. لكنها أيضاً وقعت «في حب القارة». «كثيرون مثلنا تصبح أفريقيا بلدهم الحقيقي، ولكن من يصدقنا. الأفارقة يعتبرون أن الجلد الأبيض فظ لا يتغير، والرجل الأبيض يعتبرنا كذبة ومنافقين. أفريقيا تتطور الآن ولا حصة لنا في تقدمها ولا مكان في مستقبلها. وكذلك لا حصة ولا مكان في البلدان التي جئنا منها. غرباء هنا، غرباء هناك». كنت أعتقد طوال هذه السنين أن قريبتي تدرِّس الطبخ في أفريقيا. مفاجأة ممتعة. إنها تدرِّس التاريخ.

 

(عن صحيفة الشرق الأوسط السعودية)

التعليقات (1)
محلل سياسي متواضع
الخميس، 30-09-2021 02:23 م
أمير الشعراء أحمد شوقي ، رحمه الله ، قال أشعاراً حكيمة من ضمنها ( نَصَحتُ وَنَحنُ مُختَلِفونَ دارًا** وَلَكِن كُلُّنا في الهَمِّ شَرقُ ). ما قبل زمانه و في زمانه و ما بعده كان "الشرق" يعني تلك البلدان المستضعفة التي غزاها الاستعمار القديم بغض النظر عن موقعها بالنسبة لأوروبا إذ قد لا تكون في الجهة الشرقية من تلك القارة العجوز كما هي الحال في إفريقيا التي أخضعها الاستعمار الأوروبي و على الأخص الفرنسي . ما انطلق الاستعمار القديم إلى الشرق ليحتل بلدانه من أجل رسالة خير و عدل و محبة و سلام و إنما من أجل استعباد الناس و تسخيرهم لمآربه الأنانية و من أجل نهب ثروات بلادهم . في سبيل هذه الغاية الشريرة ، كانت الوسيلة لتحقيق الغاية مثلها في الشرَ و لذلك كان يقتل من دون رحمة و شفقة ، و جيوش هذا الاستعمار كانت قلوبها كالحجارة عدوانية مستكبرة بحماقة بالغة سواء كان الجيش الفرنسي في تشاد أو في الجزائر أو في سوريا. في قصيدة "نكبة دمشق" يقول شوقي : (وَلِلمُستَعمِرينَ وَإِن أَلانوا ** قُلوبٌ كَالحِجارَةِ لا تَرِقُّ . رَماكِ بِطَيشِهِ وَرَمى فَرَنسا ** أَخو حَربٍ بِهِ صَلَفٌ وَحُمقُ . إِذا ما جاءَهُ طُلّابُ حَقٍّ ** يَقولُ عِصابَةٌ خَرَجوا وَشَقّوا). لأن السياسة مثل الرمال المتحركة لا تثبت على حال و ورود احتمال بروز قوة لتحل محل قوة قائم ، و لأن الدول مثل البشر تقوى و تضعف ، و لأن البلدان المحتلة فيها ثروات ضخمة "يقال أن مالي الإفريقية كانوا ينتجون منها حوالي 50 مليون طن من الذهب سنوياً و أغلبه نهبته فرنسا لتصبح الخامسة في امتلاك أكبر احتياطيات الذهب في العالم رغم أنه لا يوجد لديها مناجم ذهب على أرضها " ... لكل هذه الأسباب و غيرها ، كان لا بدَ من لعبة جديدة تمثلت باختراع وهمين : حق تقرير المصير و الاستقلال . بقي الاستعمار "أو الأدق الإستخراب أو الإستحمار" موجوداً و لكن من خلال أدوات محلية تنطق بلغة البلد و لون بشرتها كلون بشرة أهل البلد . كان مطلوباً من هذه الأدوات السفيهة التافهة أن تكون عبيداً لسيدها الذي قام بتعيينها و أن تحافظ على الاستبداد و القمع لكي تكون استمرارية في خضوع الناس و أن تنهب مقدرات و جهود الشعب لصالح الاستعمار مقابل أجور تافهة و متع رخيصة للأدوات . في كثير من بلدان الشرق ، أتى الاستعمار الفرعوني ليطرد الاستعمار القديم و يحلَ محله . كان هذا الاستعمار الجديد يمتاز بقوة عسكرية هائلة منحته ما يسمى "غرور القوة" أو الغطرسة و طاب له أن يجعل العسكر – الجاهلين بالسياسة – يتحكمون و استغل الأقليات و اشتغل على "الفوضى الخلاقة" و نشر النزاعات و الحروب الأهلية و الإقليمية و صار يخطط لرسم خرائط جديدة فيها تقسيمات و مزيد تجزئة . نتيجة ضعف المستوى الفكري أو الغباء في صناعة السياسات "كما اعترف بعض مفكريهم" ، تخبط هذا الاستعمار و كانت له مسارات عبثية . كان من ضمن سوء تخطيطه محاولة استغلال جيوش إقليمية "أعدها كنوع من الشرطة لقمع الشعوب" و عند تجريبها تبيَن أنها لا تصمد أمام ميلشيات من الحفاة أو لابسي "الخفَ" . اضطر هذا الاستعمار لبناء قواعد عسكرية و نشرها في عدة بلدان ، و عادت حليمة إلى عادتها القديمة "أي الحكم الغربي المباشر" . مع أن شعر المتنبي ينطبق على واقع الاستعمار – الكلب- و الأداة – الجرو – (مات في البرية كلبٌ ** فاسترحنا من عواه . خلف الملعون جرواً ** فاق بالنبح أباه) إلا أن هذا فيه تسريع للقانون الكوني في التغيير بسبب حضور الكلب غريب الوجه و اليد و اللسان ليساعد الجرو الفاشل .