آراء ثقافية

اجتزاء

كراسات
كراسات
في نقاش محتدم، قليلا، قبل بضعة أيام، حول مخاطر الاجتزاء في حياتنا السياسية والاجتماعية ذكرت واقعة بدت لمستمعي- زملاء عزلتي الإجبارية-، في بدايتها وكأنها خروج عن الموضوع، واستمهلتهم حتى تتمتها، وكذلك أفعل معكم.

في مساء شتائي بامتياز كنت أقلب في كراسات مراهقتي، كراسات غلافها ملون: أزرق، أخضر، أصفر، كل لون مخصص لمرحلة؛ كما بيكاسو، وأمسكت بكراسة خضراء أقلب صفحاتها، وبينما يقع بصري على كلمات، بدت كلمات أغنية، هاتفني صديقي عبد السلام الدمنهوري، في الواقع هذا ليس اسمه الحقيقي، ولهذه التسمية قصة سأرويها سريعا: أقام صديقي نحو سبعة أشهر في مدينة دمنهور، مازال يصفها حتى اللحظة بأنها أسعد أيام حياته، كان تلميذا في الصف السادس الابتدائي، لا يعي من الدنيا إلا وقائعها المباشرة، هناك لامس عمق الفرح بأجواء أكتوبر 1973، وهناك عرف معنى شعرة معاوية، غريبا هو، ساكن جديد في حي شبرا، أحد أحدث أحياء الطبقة الوسطى في المدينة، استأذن والديه أن ينزل إلى الشارع ليلعب مع أقرانه، ليتعرف عليهم في واقع الحال، وجدهم أكبر منه بسنوات، ظل واقفا يتفرج، لدقائق، حتى ناداه ما بدا وكأنه "كابتن" أحد الفريقين: "تلعب يا عبد السلام"، أجاب: اسمي..، وقبل أن يذكر اسمه رد "الكابتن": لو أردت اللعب معنا سيكون اسمك عبد السلام، وستكون حارسا للمرمى".

بعد نحو عشرين عاما حكى لي تلك القصة، التي اختزلتها بشدة، حكى بالتفصيل وهو يضحك، ويجزم أن مرارة الواقعة لم تدم سوى أيام، فقد رجع مراهقو شبرا عن نزقهم ومزاحهم الثقيل، وأصبح الاسم شفرة سرية بيننا.

هاتفني، إذن، عبد السلام، طالبا أن ألقاه على المقهى القريب من بيتي، مصرا على سرعة النزول، ووجدته واقفا منتظرا، وبادرني: لنتمشى، ففعلت. كان قبلها بأربعة أشهر قد غرق في حب جامح، وها هو يقول: لقد انتهى كل شيء، وراح يحكي، ونحن نلف في دوائر تتسع مع لوعته، يحكى فاسمع كلمات، وتغيب عني كلمات، فذهني كان مشتتا بين صديقي وبين تلك الكلمات في الكراسة الخضراء، وحكى وحكى، ثم توقف وسألني: ماذا أفعل؟ أجبته: "نار تطفي نار، شوفلك حبايب غير اللي غابوا"، كانت تلك الكلمات التي وقع بصري عليها، يسألني صديقي، وقبل أن أجيب، يسأل سؤال آخر، وثالث، ثم يقول يكفيني الآن تلك النصيحة العبقرية، ثم يوقف سيارة أجرة ويصعد إليها، ثم يخرج من شباكها رأسه ويقول: عبقرية، نصيحة عبقرية، عاش يا خبير.

ورحت أسرع إلي البيت، أكاد أهرول.

أسابيع وصديقي يبحث عن نار جديدة، وأنا لا أصحح، ولا أوضح له.

وهاتفني غاضبا: هذه أول مرة، صح، هذه أول مرة تخدعني، لم تفعلها من قبل، صح؟.

وجاء وقد خف غضبه، قليلا، ومشينا في دوائر، وهو يحكى أنه كان جالسا ينتظر أن يصلح له الإسكافي سحاب حقيبته حين قالت المذيعة: والآن نستمع لأغنية "دوبني دوب"، وأنه ارتبك لأنه عندما سمع فايزة أحمد تغني: "سألت ناس في الحب دابوا/ مين اللي يقدر على نار عذابه/ قالولي نار.." أكمل دون أن يسمعها، وكأن صوتي هو الذي يخرج من سماعات المذياع، ثم صعق عندما استعاد سمعه وفايزة تغني: "أنا قلت والله ما في أغلى منهم، لا قبل منهم ولا بعد منهم"، ثم علا صوته بغناء المقطع حتى أثار حفيظة بعض المارة.

رجوته أن نجلس، وحكيت له.

كراساتي الملونة أغلفتها من بواكير مراهقتي، كنت أدون فيها الأغاني التي تعجبني، وبعض الأشعار، والمقولات، والحكم، قليل منها مرتبط بوقائع في حياتي، معظمها عام.

بصعوبة بالغة صدق وقوع تلك المصادفة العجيبة، مصادفة أن أقرأ الشطرين فقط، وأن يمنعني استعجاله لنزولي من أن أقرأ ما سبقها وما لحقها، وأن تغيب الأغنية عن ذاكرتي.

وسألته: هل كنت أعرف ما ستقوله لي، من أين لي أن أعلم بالنهاية الحزينة لقصة الحب التي بسببها لم أسمع منك كلمة طوال أربعة أشهر، طوال أربعة أشهر لا تذهب للعمل، لا تقابل أحدا، ولا تكلم أحدا، فكيف سأتوقع ما تقوله لي؟ حين انتهيت كنت مشدوها لتلك المصادفة العجيبة، وحين عدت للبيت، في الواقع كنت أهرول، عائدا، أريد أن أعرف مصدر تلك الكلمات، قرأت ما دونته قبل أربعين سنة، ولم أكتشف معنى العلامات التي وضعتها، الخطوط الثلاثة تحت اسم الملحن عبد العظيم عبد الحق، علامة الاستفهام بعد اسم صلاح أبو سلام، مؤلف كلمات الأغنية، تاريخ 28/ 10/ 1961، الفيوم، وتاريخ أخر بعده بأربعة عشر عاما بالضبط، وبعده تاريخ آخر بعده بخمسة أعوام، بالضبط أيضا، وأسفله كلمات: دوبني، توبني، المعاصي. هذا فعل الذاكرة يا صديقي، لم أقصد خداعك، هذا اجتزاء لا واعي.

وعدت لسياق النقاش مع زملاء عزلتي الإجبارية.

قال أحدهم: فعلا، الذاكرة تفعل بنا الأعاجيب، تحذف، وتبرز بطريقة عشوائية.

فاعترض ثاني: بعض علماء النفس، أظنه فرويد، يؤكد أن ذلك يتم لأسباب، فالذاكرة لا تهمل إلا لسبب قهري.

ثالث قال: إن لمسألة الاجتزاء آثار مدمرة في ما يتعلق بالأحداث والشخصيات التاريخية.

رابع تذكر: كنت أقف في ميدان سفنكس، منتظرا قريبا لي، حين توقفت سيارة، وسألني قائدها: أين كوبري أحمد عرابي، فأجبته: تقصد شارع، رد: لا كوبري، وحينها كان قريبي قد وصل، فسألني، فأجبته، فخاطب قائد السيارة: هنا الشارع، الكوبري في شبرا، فنزل الرجل من سيارته، وسأل شخصا كان يقف قريبا منا، ويبدو أنه كان يسمع حديثنا، وسمعته يسأل قائد السيارة عن اسم جده، فتدخلت وسألته: جد من؟ فأجابني جد أحمد عشان نعرف، يمكن يكون أحمد عرابي تاني غير بتاع الخديوي إسماعيل، وهنا قهقه قريبي، وقال: فعلا سعد زغلول معاه حق: مفيش فايدة.
0
التعليقات (0)

خبر عاجل