تقارير

عبد الكريم الكرمي "أبو سلمى".. ذاكرة فلسطين وهويتها

بدأ أبو سلمى ثورياً وعاش ثورياً ومات ثورياً.. وبقيت أشعاره ثورية حتى وفاته
بدأ أبو سلمى ثورياً وعاش ثورياً ومات ثورياً.. وبقيت أشعاره ثورية حتى وفاته
قاد الموجة الثانية للنهضة الشعرية الفلسطينية أربعة شعراء شكلوا نواة رابطة للشعر الفلسطيني الحديث، أكاد أجزم أن لمدرسة النجاح (التي أصبحت جامعة لاحقاً) دوراً أساسياً فيها، ولولا أن شاعرنا لم يكن فيها، لجزمت أن هذه المؤسسة هي التي قادت النهضة. 

الأربعة الشعراء هم: إبراهيم طوقان (كان معلماً في النجاح للغة والشعر)، الشهيد عبد الرحيم محمود (كان طالباً عند إبراهيم، ثم معلماً فيها)، جلال زريق (كان إدارياً في المدرسة سوري الجنسية، قليل الشعر نبيه اللغة)، وأخيراً أبو سلمى الكرمي (هو ثالث الشعراء وأطولهم عمراً، فكان صلة الوصل بين الموجة الثانية والثالثة).

وهذا لا يعني أنه لم يكن هناك غيرهم في هذه المرحلة، بل واكبهم شعراء أفذاذ في هذه المرحلة أمثال برهان الدين عبوشي وهارون هاشم رشيد، وبعض الذين ذكرناهم في الحلقات السابقة.

من هو أبو سلمى؟

الكرمي، نسبة لطولكرم، حيث ولد الشاعر الفلسطيني الراحل عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) في مدينة طولكرم عام 1909م. والده العلامة الشيخ سعيد الكرمي، القاضي والوزير واللغوي (راجع مقالنا عنه هنا).

تنقل مع والده، فتنقلت دراسته بين طولكرم ودمشق والسلط ثم دمشق، حيث أنهى الصف الثالث الابتدائي في طولكرم، وانتقل مع والده إلى دمشق التي أنهى فيها المرحلة الابتدائية. ثم درس الإعدادي والثانوي في السلط بالأردن، وأتمّ دراسته الثانوية في مدرسة التجهيز ودار المعلمين بدمشق، حيث نال شهادة البكالوريا السورية في حزيران 1927، وذلك في دمشق حيث كان أخوه أحمد صاحب جريدة "الميزان" الدمشقية.

عاد إلى القدس في وقت متزامن مع عودة مجدد الشعر الفلسطيني إبراهيم طوقان من دراسته في الجامعة الأمريكية في بيروت، فكان ثاني ثلاثة بعد طوقان وقبل جلال زريق جددوا الشعر الفلسطيني، بعد عهد طويل من الشعر التقليدي تسيّده في تلك الفترة البذور المعمّمة (تعتمر العمامات) في الشعر الفلسطيني (النبهاني، التاجي الفاروقي، والريماوي، وسعيد الكرمي، واليعقوبي)، ثم لحقهم الشهيد عبد الرحيم محمود ليشكلوا عصبة من رواد الشعر الفلسطيني. في القدس عمل مدرساً وساهم في الإذاعة التي كان يعمل فيها إبراهيم طوقان، وخلال تلك الفترة التحق بمعهد القدس ونال شهادة المحاماة.

ارتبط أبو سلمى برفيقة عمره، رقية حقي يوم 17/1/1936 وكان الزواج في مدينتها عكا (توفيت زوجته في 2/9/1978). ولم ينجبا "سلمى" ولكنه كان ينادى بأبي سلمى، لأسباب شعرية، منذ أن كان يدرس في معهد عنبر أيام المرحلة الثانوية في دمشق. ولكنهما رزقا سنة 1937 بابن بكر هو الدكتور سعيد الكرمي، الذي عمل كطبيب متخصص في جراحة الكلى في الولايات المتحدة.

عندما بدأت الاضطرابات في حيفا، أرسل ولده وزوجته إلى عكا وبقي وحده في حيفا، حيث كان مكتب المحاماة الخاص به. ولما اشتدت الاضطرابات لم يستطع الذهاب إلى عكا إلا بزورق بخاري عن طريق البحر ليتجنب المستعمرات الصهيونية على الطريق البحري.

وسقطت حيفا بتاريخ 22 نيسان/ أبريل سنة 1948 في أيدي اليهود، يومها لم يستطع أن يأخذ أبو سلمى معه سوى مخطوط لرواية شعرية ألّفها عن ثورة عز الدين القسام وثورة 1936، مع مقدمة كتبها له الأديب المصري إبراهيم عبد القادر المازني. ثم غادر عكا في 28 نيسان 1948. وكان قد ترك الكثير من أشعاره في درج مكتبه، بعد أن أقفل عليها وأخذ مفتاحه على أن يعود بعد أسبوعين لمتابعة نشاطه المهني والأدبي، بعد تحرير فلسطين ـ كما وعدت الدول العربية ـ ولكن عكا أيضاً سقطت في 16 أيار/ مايو سنة 1948. وصارت تبعد أشعاره التي ودّعها في حيفا كلما احتل العدو أرضاً جديدة. وحمل أبو سلمى لجوءه في يومياته وفي أشعاره التي كرس معظمها للقضية الفلسطينية.

أغمض الشاعر عينيه إلى الأبد 11 تشرين الأول/ أكتوبر سنة 1980 في العاصمة الأمريكية، بين يديّ ولده الوحيد، الدكتور سعيد الذي حرص على نقله، بناءً على وصيته، إلى دمشق، حيث شهدت العاصمة السورية، في وداعه، واحداً من أكبر مواكب التشييع في تاريخها إلى مقبرة الشهداء في مخيم اليرموك.

سيرته قضية

تلخص سيرة حياة أبي سلمى تاريخ الثقافة الفلسطينية المعاصرة ـ كما يقول الأديب يحيى يخلف ـ فهذا المحب العاشق المنتمي القسامي الكادح الشاهد، كان من أوائل المبدعين الذين تجاوزوا النظم وصنعوا الشعر. جذوره العميقة ضاربة في تربة التجربة الكفاحية، غنى الثورات وانحاز إلى الشعب فكان نقشاً حضارياً على صفحة الكفاح الفلسطيني.

لم يعد نضالُ الفلسطينيِّ وسيلة من أجل تحرير بلاده فقط، بل صار غاية في حد ذاته، ووصل الأمر بالفلسطيني أن يدعم كل حركة تحرر ويتفاعل شعورياً (على الأقل) مع أي حركة مقاومة للظلم والاحتلال. ولم يعد نضاله من أجل أرض فقط أو من أجل عودة فقط، بل تخطى نضاله مفهوم الحرية وصراع الحدود إلى صراع بين العدل والظلم والظالم والمظلوم والإمبريالية والشعوب. وانغرس في نفسه حب الحق والعدل، ضد الباطل والظلم. فصار فعل الجهاد والمقاومة، فعل حب وتضحية وليس فعل جهد ومعاناة وصبر على المكاره حتى يأتي الفرج.. فهو لم يعد يهمه أمام متعة محاربة الظلم (والأجر فيه) أن يحقق النصر اليوم، لأنه على ثقة أن النصر سيتحقق عاجلاً أم آجلاً. وبالتالي هو قد يفرح بسيره في "الطريق إلى النصر" أكثر من فرحه بالنصر ذاته.

وأكثر ما يعبر عن هذه الفكرة أبيات شعر قصيرة، غناها كبار منشدي القضية الفلسطينية؛ وطنيين وإسلاميين، وهي:

يا فلسطين ولا أغلى ولا أحلى وأطهر
كلما حاربت من أجلك أحببتك أكثر

لا تعني شهرة هذه القصيدة أنها أفضل ما كتب أبو سلمى.. لكن لا شك أن هذه الأبيات هي من أشهر ما كتبه بعد قصيدته الشهيرة:

انشر على لهب القصيد         شكوى العبيد إلى العبيد
شكوى يرددها الزمان           غداً إلى الأبد الأبيد

إنتاجه

رغم أن رفاقه أصدروا عدة مجموعات شعرية في فلسطين، إلا أن هذا الشاعر الكبير لم تصدر له أي مجموعة شعرية في فلسطين، بل كانت قصائده موزعة على الصحف والمجلات وعلى أفواه المعجبين وفي ذاكرة الحفظة.

وقد استدرك بعد النكبة هذه الهفوة، فجمع قصائده بقدر ما حفظت ذاكرته والأرشيف، وأصدرها في مجلد واحد بعنوان "ديوان أبي سلمى ـ عبد الكريم الكرمي"، وأضاف إليها مجموعاته التي أصدرها بعد النكبة، مع القصائد التي لم يدركه الوقت لتثبيتها في مجموعة مستقلة والمجموعات التي أعطاها عناوين محددة، وأصدرها فرادى، ثم في ديوانه الكبير، هي:

ـ المشرد: 1953.
ـ أغنيات بلادي: 1959.
ـ أغاني الأطفال: 1964.
ـ من فلسطين ريشتي: 1971.

وذكر، في مقدمة ديوانه، أنه كتب مسرحية شعرية تبدأ بكفاح الشيخ الشهيد عزالدين القسام وتؤرخ فنياً لتلك المرحلة النوعية من تاريخنا، وأن الكاتب العربي الكبير إبراهيم عبد القادر المازني قد وضع مقدمة لهذه المسرحية المفقودة، التي يُظن أنها سرقت من الشاعر بعد الهجرة من فلسطين. 

ولأبي سلمى ثلاثة كتب غير شعرية، هي:

ـ كفاح عرب فلسطين: منشورات مؤسسة اللاجئين الفلسطينيين - دمشق – 1964.
ـ أحمد شاكر الكرمي، مختارات من آثاره: وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1964.
ـ الشيخ سعيد الكرمي: المطبعة التعاونية، دمشق، 1973.

نال أبو سلمى سنة 1978 جائزة اللوتس العالمية للآداب، من كتّاب آسيا وإفريقيا، وهو رابع أديب فلسطيني ينال هذه الجائزة بعد كمال ناصر وغسان كنفاني ومحمود درويش.. وباعتقادي أنه أكثرهم جدارة في نيل هذه الجائزة، لأنه أقلهم "أسطرة" في صورته الفلسطينية، فالأول والثاني قضيا اغتيالاً والثالث خرج مطارداً من فلسطين، أما هو فيشترك معهم بصفة اللاجئ، ولا يضيف إلى كينونته السياسية أية صفة أخرى تساهم في "أسطرة" الصورة وكاريزما الشخص.

بدأ أبو سلمى ثورياً وعاش ثورياً ومات ثورياً.. وبقيت أشعاره ثورية حتى وفاته، واستحق لقب "زيتونة فلسطين" في الشعر.

* كاتب وشاعر فلسطيني

التعليقات (2)
سلمى
الثلاثاء، 25-10-2022 07:15 ص
احتاج الي حوار له وكانه يتحدث ولكن المحتوى هذا رائع
لين
الأحد، 17-10-2021 02:55 م
أريد معلومات أكثر