كتاب عربي 21

أبو الهول وعامل الديلفري

أحمد عمر
1300x600
1300x600
يقول رائد علم الاجتماع والسياسة ابن خلدون، والرائد لا يكذّب أهله: "إذا كثرت الجباية أشرفت الدولة على النهاية"، وقد بدأ أبو الهول أول عهده بالجباية، لقد بُعث هذا الرجل جابياً.

ولأبي الهول تهديد شهير، التهديد ليس للسحابة التي قال لها هارون الرشيد: أمطري حيث شئت فسوف يأتيني خراجك، وليس لنقفور كلب الروم، التهديد للشعب وهو: ح تدفع يعني ح تدفع.

التهديد صار "ايفيه"، وإيفيه الأفلام المصرية والخطب السياسية تعادل القول السائر عند العرب. وأقواله كلها إيف "هات"، كلها جباية وفلوس وتحصيلات. والحكاية أيها السادة، أن قصة حبنا ليست كقصة حب عبد الحليم حافظ لها أكثر من بداية، قصة حبنا لها بداية واحدة، هي استعباد الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً.

الحكاية أنَّ عامل ديلفري، كان يقود الدراجة النارية، ومعه أهله، ووقعت له واقعة تبيّضُّ منها المقادم، وهي مثل حكاية "التاجر والعفريت" في ألف ليلة وليلة، وكان التاجر مسافراً، وجعل يأكل التمر في الاستراحة، فرمى بنواة أول تمرة، فظهر له المارد واتهمه بقتل ابنه، وأراد الثأر، وهي حكاية جميلة، لها عبر كثيرة، أولها أن الدنيا غرورة.

سمع عامل الديلفري صوتاً يأمره بأن يركن على جنب، ووجد موكب الفرعون الذي يتفقد الجسور والرعية ومخالفات المرور ويجمع الفكة والنقطة، وقفت بجانبه طائرة سوداء من غير أجنحة، وأحاط به رجال يربّون الخنازير في صدورهم.

وكان المواطن على دراجته مع ابنه وطفله وزوجته، عندما ظهر الحاجز الطيّار، والركاب الأربعة من غير خوذة الوقاية من الصدمات والحواجز، لكنهم كانوا مكمّمين بالكمامة الصحية. وكان المصري مكمماً بالكمامة السياسية منذ أن عرفناه، لم تفك كمامته إلا سنة واحدة في عهد المرحوم محمد مرسي، فذعر حكام الروم، وتنادوا إلى قتله، فمكروا به وغدروا، ودار حوار بين الرجل الوطواط وعامل الديلفري المخطوف اللون، الذي لا نرى وجهه، فهو غائب وراء الكمامة، والكاميرا تصور بطل القصة، وبطلها هو الرئيس الذي خرج متنكراً للاطّلاع على أحوال الرعية.

فيلم عامل الديلفري يذكّر بمشهد شائع من السينما المصرية، يكون فيها البيه صاحب العزبة في الحنطور، فيعثر على فلاح مريض، فيطرده من العمل، أو يمنحه يوما إجازة. ومن العجيب أنّ السيسي تتبعه الكاميرا حيثما رحل وارتحل، وهو مشهد شبيه بمشهد ملك طيبة في مسرحية أوديب، الذي تعثّر بابنه، فتلاسنا، فقتله الابن.

ظهر الحوار الذي جرى بين "أبو الهول المصري الجديد" وعامل الديلفري، كأنه نسخة معدلة جينياً من حوار مسرحية "شاهد ما شفش حاجة":

- اسمك إيه؟

- إسلام عويس عمر..

 بتكسب كام في اليوم؟

- عشرة جنيه..

- اشرح لي أكتر..

- عشرة جنيه في التوصيلة..

وهنا يجد الرئيس الذي قام بثورة الحنان أن الكمامة تحجب صورته الجميلة وصوته الرخيم، فيكشف التنكر، فيزداد ذعر عامل الديلفري، وهو يرى الفرعون وقد نجا من الغرق ليكون لمن خلفه عدوا وحزنا.

- رايح فين؟

وهذا سؤال مخابرات، فهو رئيس المخابرات العسكرية قبل أن يصير فرعونا.. المصري ظريف وحسن التخلص من المآزق، لكن عامل الديلفري خائف، ولو صدق لقال: في ستين داهية.

من فوق عرشه، يعاتب الرئيسُ عاملَ الديلفري، وحوله الرجال الذين يخبئون الخنازير في صدروهم، ثم نأخذ علماً بأن عامل الديلفري يصل الرحم ويأخذ زوجته إلى أختها للفطور، وهذا يحتاج إلى ثناء ومكافأة، لكن الرئيس مشغول بحلّ لغز صندوق تحيا مصر. يزعم الرئيس بأنه رقَّ له ولابنه، ويعاتبه لأنه لا يحافظ على حياة ابنه، لكن عامل الديلفري لا يزال مذعوراً، فخلفه كوم لحم على الدراجة النارية.. إسلام عويس عمر المواطن، والإسلام الدين، كلاهما مذعوران من الفرعون.

والرؤساء العرب يزورون فقيراً كل سنة مرة، من أجل أن تطلع الصورة حلوة.. السؤال: كيف نفرّق بين من يفعل ذلك للكيد والخدعة، ومن يفعل ذلك واجباً؟ الجواب هو صندوق الانتخابات.

وتستثمر الفضائيات هذا الفيديو في الدعاية لخليفة العمرين، الرحيم بشعبه، حتى تكاد أن تحتفل بفرحة المواطن الغلبان بلقاء الرئيس، الفرحة التي لم تظهر في الفيديو الأول، فهو مذعور، فقررت الفضائيات مقابلة عامل الديلفري مرة ثانية، فحكى عن الهيبة، والخضّة، حتى إنه لم يطلب من الرئيس المارد الذي قال له: اطلب وتمنَّ، فلم يطلب شيئا، كان مذعوراً، وكان يخشى أن يتهمه الرئيس المارد بقتل ابنه.

ثم يغرق الفرعون الجديد، بعد معرفة أجر العامل في التوصيلة، ليس في البحر، فقد تعلم السباحة بعد غرق فرعون موسى، وإنما في تفكير عميق.. الفرعون الجديد رجل حسابات، وجابٍ ممتاز، وقد بنى طرقاً كثيرة، ويريد أجرة السير عليها. وقد ذكّرنا بالزعيم أنور خوجا، زعيم ألبانيا الشعبية، الذي كان يبني الثكنات خوفاً من الغزاة، فملأ ألبانيا بالثكنات حتى أنه بنى ثلاثة أرباع مليون ثكنة تحت الأرض، ثكنة لكل عائلة ألبانية، خوفاً من الغزو، يعني لن يكون في ألبانيا أزمة سكن في حالات الطوارئ، فلم يكن دكتاتور ألبانيا يدّخر في صندوق تحيا ألبانيا لأنه لم يكن يفكر في الهرب منها أو تفليسها.

الدكتاتور العربي غير الدكتاتور اللاتيني، والوحش العربي مختلف عن الوحش اللاتيني. أبو الهول قصة مصرية كما يقول فاضل الربيعي، الباحث في الأساطير، هاجرت إلى الأساطير الإغريقية. واسمه اللاتيني السنفكس، وكان يحب الكلمات المتقاطعة وحل الأحاجي، ويسأل الرعية عن حلّ لغز، ثم حلّ أوديب اللغز، فانتحر الوحش.. لم يكن الوحش يتخيل أن أحداً سيحل لغزه المحبوك: ما الشي الذي يمشي على أربع صباحا وعلى اثنتين ظهرا وعلى ثلاث مساء؟

وفي الحكاية عبرة.. إن الحياة يوم، وإن الانسان هو مركز الكون، وهذه العبرة هي قانون عصور النهضة الأوروبية الصلبة. وكان الوحش في الحكايات يُقتل بالسيف، فقُتل بالعقل هذه المرة. لكن الإعلام المصري لا يريد للمواطن أن يحلّ أي لغز، عليه أن يعمل ويعمل ويعمل. واستطاعت مراكز صيانة الدولة وحراسة قبور الفراعنة الموتى وقبور المصريين الأحياء منع الناس من التفكير وحل الألغاز بالتجويع والخوف، وبالحكايات الإعلامية، وإنكار عذاب القبر، ومبروك عطية، وباسم يوسف، وفستان رانيا وما تحت فستان رانيا.

تشرفت صحيفة الأخبار بمقابلة المواطن الذي حظي بلقاء أبي الهول، وحصلت له البركة، وصار نجماً ليومين، وكان يريد شقة وعملاً، ويأمل أن يعالج أخاه، فحصل على عمل، ووُعد بشقة يا كمون، ووُعد بعلاج أخيه يا كزبرة.. وأخوه ليس مشهوراً مثل نوال السعداوي، أو رجاء الجداوي حتى يعالج في المشافي العسكرية، وهو حق لمواطن حالفه السعد ووجد أبو الهول مصادفة في طريقه، فأكرمه، وأكرم زملاءه من عمال الديلفري برفع ضريبة التوصيلات 14 في المئة. وهو ما رأيناه في أفلام الفتوّات وقصص الحرافيش.

ملخص الحكاية أنّ الرئيس بحث عن حكاية لطيفة مثل حكايات ألف ليلة يفرض بها الضريبة، فكان ما كان.

كنت أتوقع من عطوفة الرئيس أن يحمل معه الزوجة وطفلها في سيارته الفخمة "ديلفري" إلى بيت أختها، حرصا منه على حيوات أبناء شعبه الثمينة من خطر الركوب على دراجة نارية، فيشبع الأهل من رؤية الرئيس ويستغنون برؤيته عن الفطور.

لو فعل لانتحرت مثل سفنكس الإسطورة إعجابا مني بعدل الفرعون وكرمه.

twitter.com/OmarImaromar
التعليقات (4)
حنفي الغلبان
الثلاثاء، 15-06-2021 04:15 م
بعد ما شالوا الملك فاروق ، عيال كافري في مصر كانوا اتنين أراجوزات من مجلس قيادة الثورة "مؤنث ثور" ، و التاني جهَ وراه الأراجوز التالت بامر من واحد زي كافري. ناس من بلدياتنا قالوا عن التلاته في عصر التالت : واحد وكلَنا المش ، و واحد علَمنا الغش ، و واحد لا بيهش و لا بينش . يعني "الخالد !" جاب الفقر ، و "المؤمن !" جاب الغش ، و "حبيب الويسكي !" كان طرطور. و دارت الأيام و مرَت الأيام "في أغنية أم كلثوم" ، وجهَ واحد "أو واخد !" مجهول بس واضح إنو من كفر "شعبولا اللي مخَه طار " . أغاني إحنا فقرا قوي ، و حتدفع يعني حتدفع ، ياكامل يا وزير إهدم ، و أغنية حأبني قصور و أزيد الديون ، و الأغنيه الجاية على لسان النيل "قاللي الوداع" ... بتقول محصلتش خيانه في تاريخ مصر زي الأيام دي . ما فيش فرعون كان عميل لبلد أجنبي بيحقد على أهل مصر ، ما فيش فرعون سعى في خراب مصر و بيوت أهل مصر . دي مش تبرئة للفراعنه الوحشين بس الموجود أوحش بدرجات .
أكثر من رائع!
الثلاثاء، 15-06-2021 04:14 م
أستاذ أحمد، كم أنت رائع! رائع في اختيار القصص الدالة، ورائع في تناولها تناولاً أدبياً ساخراً يجعل القارئ مشدوداً إلى ما تكتبه رغم أنه تحليل يتناول السياسة. ورائع في توصيف أبي الهول وفي إطلاق هذا الاسم عليه. ورائع في أسلوبك الساخر الجذاب، ورائع في معرفتك لدرجة أنك عندما تكتب عن سوريا يظنك القارئ سورياً وعن مصر يظنك القارئ مصرياً. ولا تكتفي بالأمثلة التي تدور على ألسن الشعب المعني، بل تستشهد بأفلامه وكتّابه وثقافته المحلية. لا يمكن الاقتصار على وصفك بالمحلل، رغم أنه ما تفعله هو قمة في التحليل، ولا على وصفك بالأديب، رغم أنك بأسلوبك وعرضك في قمة الأدباء، ولا على وصفك بمحرّك التوعية رغم رسوخ قدمك في هذا المضمار، فإنك هذا كله معاً. شكراً لك.
الصعيدي المصري
الإثنين، 14-06-2021 07:36 م
نقول عندنا غي مصر .. هم يضحك وهم يبكي .. وللاسف كا تبقى لدينا سوى المبكيات..
باسم إبراهيم
الإثنين، 14-06-2021 04:04 م
لقد ارتقيت بأسلوبك الساخر الهادف "المضحك المبكي" الدرجات العلى، ولا أستطيع أن أوفيك حقك في وصف جماله وجاذبيته وسحره، مقالاتك هي كلمة حق وسيف مسلول لنصرة الحق والإصلاح في الأرض كما يحب ربنا ويرضى.