قضايا وآراء

الحاجة إلى نموذج جديد للشخصية المصرية

عبد الله الأشعل
1300x600
1300x600
الشخصية المصرية تعني وجود خصائص عامة تجمع المصريين جميعا، والتي يشترك فيها معظم المصريين. وهذه الخصائص تتعرض عادة للتغيير عبر التاريخ، ولكن يبقى منها القليل الذي يجمع المصريين عبر العصور. وقد توزعت دراسات الشخصية المصرية على عدة اتجاهات:

الاتجاه الأول: يحصر كافة الجوانب الإيجابية للشخصية ويفترض أن كل مصري يتمتع بها، وهي رصيد ثقافي اجتماعي تاريخي تتناقلها الأجيال عن طريق التربية، وعن طريق الثقافة المشتركة، مثل الكرم والنخوة والتدين وغيرها من الصفات النبيلة التي تخيلتها هذه الدراسات.

أما الاتجاه الثاني، فقد جمع كل سلبيات الشخصية المصرية على أساس أنها ثقافة مستقرة لا تتغير.

وأما الاتجاه الثالث، فهو الذي جمع سلة من الصفات مفترضة ومتخيلة. وللأسف الشديد لا توجد دراسة واحدة جادة تؤصل للشخصية المصرية وتغيراتها عبر العصور، كما تحدد العوامل التي أثرت في هذه الشخصية سلبا أو إيجابا. ولم تظهر دراسة واحدة مقارنة بين الشخصية المصرية والشخصية في دول أخرى، علما بأن الهجرة بين الدول أثرت تأثيرا فادحا في بعض الدول، بينما بقيت الأصول الثابتة في المجتمع في دول أخرى حارسة لقيم المجتمع ضد المهاجرين الدخلاء.

فالشخصية البريطانية مثلا لم تتأثر كثيرا بالهجرات إلى بريطانيا، وإنما ظل العرق الأنجلوسكسوني مميزا بين قيمه وبين عادات الشعوب المهاجرة إلى بريطانيا، علما بأن بريطانيا الإمبراطورية استضافت عددا كبيرا من أهالي المستعمرات في كل القارات. ومع ذلك ظلت هذه الهجرات جزرا منفصلة ولم تندمج في المجتمع البريطاني إلا قليلا.

أما المجتمع الأمريكي فقسم كبير منه من العالم الثالث، ولكن القاعدة الصلبة في حراسة القيم ظلت في يد العرق الأبيض الأنجلوسكسوني. وهذه مشكلة أخرى يشعر بها المهاجر إلى المجتمع الأمريكي، فيجد أن قيم القاعدة الصلبة هي التي حكمت كل المهاجرين في صورة الدولة القانونية.

أما في مصر، فقد ظهرت مجموعة من الأمثال الشعبية التي تغذي بعض الخصائص في المجتمع المصري. فمنذ عهد الفراعنة تكونت خصائص تتفق مع الحكم الفرعوني، وهي عبادة الحاكم أو تقديسه أو الثقة فيه. وبعد الحكم الفرعوني احتلت أمم كثيرة مصر ولم يكن الشعب المصري طرفا في هذه العملية، فاكتسب الشعب خصائص جديدة تمكنه من التعايش، وهذه المرحلة هي الأطول في تاريخه.

ولسوء الحظ فإن القيم السلبية تكونت بالشخصية المصرية في هذه الفترة، وأهمها النفاق والكذب والانفصال بين الأقوال والأفعال، بالاضافة إلى الأحقاد الاجتماعية والحسد والوقيعة والرغبة في إيذاء الآخر، وهذا مما سجله كاتب بارز مثل الدكتور زكي نجيب محمود في إحدى مقالاته الأسبوعية في الأهرام، بعنوان "ويل للمعاصرين من المعاصرين".

وقد لاحظت بنفسي خلال معايشتي للجاليات المصرية في مختلف بلاد العالم أن المصري بصفة عامة لا يتآمر إلا على المصري، كما أن المصري عنصري بصورة ما، وإن تعاطف مع مصري آخر فذلك نادر ولأسباب خاصة لا تلتحم لتشكل شخصية مصرية. وبذلك كان الشعب المصري هو الشعب الوحيد الذي تختلف شخصيته داخل مصر عن شخصيته خارج مصر.

وقد اضطربت الشخصية المصرية اضطرابا عظيما تحت الحكم العسكري منذ عام 1952، فقد قيل له إن الحكم الوطني أفضل من الحكم الأجنبي، مع أن سجل الحكم الأجنبي لم يكن شرا كله وأن سجل الحكم الوطني اتسم بالخصائص السلبية في هذه الشخصية، مثل الخداع والكذب والقهر والنفاق والتدين المنقوص والفصل بين النصوص وبين السلوك.

ثم قيل لهذا الشعب المصري بعد ذلك إن موسكو والنظام الشيوعي ينسجم مع الإسلام تحت مسمى الاشتراكية العربية، وأن مصر تتمتع بالاستقلال والحرية. وظهر مصطلح الوطنية ليصف الحكم المصري، ثم قيل له إنه جزء من الأمة العربية وليس الأمة الإسلامية، وإن هناك صراعا بين الأمتين.

وكان الشعب المصري دائما ينقسم حول الحاكم وأنصاره، ولكن لا يكاد يبين خوفا من البطش، ولذلك أغرق في النفاق وفي ازدواج الشخصية.

وقيل للمصريين أيضا إن العروبة تجمعهم وأن الوحدة العربية هدفنا، وأن مصر قاطرة العروبة والوحدة، وأن هذه العروبة والوحدة هدفها حماية فلسطين من إسرائيل الغاصبة، وأن كراهية إسرائيل على رأس الفضائل القومية، وأن الولايات المتحدة والغرب يتأمران علينا، ومعهما النظم الرجعية في الخليج وحلفاء الأمريكان حتى لو كانت المسافة بينهم وبين إسرائيل واسعة..

وقيل لنا إنه لا يمكن التمييز بين أمريكا وإسرائيل، وأن النظام التقدمي في مصر جعل مصر فوق الأمم، وأن هذا النظام التقدمي يحارب من الأعداء، وأول هؤلاء الأعداء هم الملكية المصرية والإقطاع ورأس المال المتحالف مع الاستعمار. وكان الدفاع عن هذه المبادئ يؤهل الشباب إلى أن يكونوا نخبة وطنية مميزة في ما يسمى منظمة الشباب، وهي حزب الحاكم.

وتم التمييز بين الشباب المنتمين الذين يدافعون عن الحاكم ونظامه، بينما ألحقت بالقطاع الأعظم من الشباب كل الصفات السلبية، فحرموا من صفة الوطنية. وهؤلاء دائما أقرب إلى العمالة وخيانة الوطن، على أساس أن الحاكم هو الوطن.

وبالطبع لم يكن ممكنا أن ينشأ نقد أو معارضة أو حرية، فقد شهدت هذه المرحلة رص الأجساد وتفريغ العقول، وهو ما عبرت عنه الدراما والأغاني في هذه الفترة. ولما هُزم هذا النظام بكل مكوناته وتم احتلال سيناء، لم يكن هناك عقل يدرك هذه الحقائق، فشمت ضحايا النظام في الجيش وفي النظام معاً وتمنوا النصر لإسرائيل، وهم الذين صنفوا العروبة على أنها إلحاد وأنها حركة عنصرية. وكان ذلك هو حال التيارات الإسلامية.

ثم جاء أنور السادات فقلب الموازين للاتجاه الآخر، وأصبحت أمريكا وإسرائيل هما النموذج، وأصبحت العروبة قرينا للتخلف، فاضطرب العقل المصري أو ما تبقى منه، كما اضطربت عنده قواعد الصواب والخطأ فأصبح اللص رجل أعمال وأصبح بيع القطاع العام إصلاحا اقتصاديا، وأصبح الانفتاح إصلاح سياسيا واقتصاديا. فظهرت قيم الانتهازية وسرقة المال العام مع المحافظة على التدين الشكلي؛ لأن السادات اختصر هذه المرحلة في عبارة واحدة وهي أنه رب الأسرة المصرية في دولة العلم والإيمان، وهي دولة لا تؤمن بالعلم ولا تعرف الإيمان.

ثم استمر هذا الخط في عهد حسني مبارك حتى قامت ثورة يناير عليه. وفي هذه الأثناء كان التخلى عن القضية الفلسطينية فضيلة سياسية والتقرب من إسرائيل هو العقل نفسه، وامتلأت مصر بالدجل السياسي من كل اللأصناف، كما اضطرب العقل المصري ولم يستطع أن يفسر الأحداث الخطيرة التي عاصرها؛ وأهمها أن الدكتاتورية العربية قد استغلت للبطش بالشعوب عليها وأن ذلك ضروري لبقاء الوطن.

بل إن عبد الناصر عندما أعلن رغبته في التخلي عن السلطة يوم 9 حزيران/ يونيو 1967، تولى الأستاذ هيكل ترويض من صحى عقله لكي يفهم الأحداث فهما صحيحا، فقال إن الاصطفاف وراء الحاكم والثقة فيه وفي وطنيته أهم من النتائج الكارثية، وأن بقاء الحاكم في السلطة هو أكبر إنجاز ضد مخطط إسرائيل عام 1967، لدرجة أن بعض السذج قد انتحروا عند سماع خطاب التنحي.

والحق أن الاستاذ هيكل تولى ترويض العقل المصري منذ عام 1952 حتى وفاته عام 2015، ولم يترك لهذا العقل فرصه لكي يتعرف على الكوارث التي حلت بمصر. فصور تدخل مصر في اليمن على أنه انتصار لقيم الحق والحرية، وأن إسقاط نظام الإمامة في اليمن وتأسيس النظام الجمهوري وهزيمة الرجعية العربية المتحالفة مع الاستعمار؛ هو الانتصار الأكبر.

ومع ذلك لم يعرف الشعب حتى الآن حجم الكارثة التي واجهتها مصر في اليمن كما لم يعرف الإجابة عن كثير من الأسئلة المرتبطة بكارثة 1967. وحتى الآن لا يزال الشعب منقسما حول جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك، وسبب هذا الانقسام هو غلبة الجانب العاطفي وغياب العقل، وندرة المعلومات الصحيحة عما حدث لمصر في هذه العصور الثلاثة. وأشعر بالحزن الشديد عندما أناقش هذه المسائل على أساس علمي وبمعيار واضح، وهو ماذا قدم هؤلاء لمصر من منافع وماذا سبب لها من كوارث؟

عندما قامت ثورة 25 يناير امتدحها الجميع سوى المنتفعين من نظام مبارك، ثم تفرق الناس حولها عندما اتخذ النظام الجديد في مصر في 2013 موقفا عدائيا منها، ولذلك اضطرب العقل المصري مرة أخرى حول حركة ضباط يوليو 1952 وعلاقة هذه الحركة بما أسماه أنور السادات بثورة التصحيح ضد الناصريين، ثم ما علاقة حركة 52 بـ30 حزيران/ يونيو 2013 وحركة الجيش في 3 تموز/ يوليو 2013، وما موقع إسرائيل والعرب في منظور السياسة الخارجية المصرية.

الخلاصة، أن الأحداث المتناقضة التي شهدها المصريون، وتغييب الحقائق وتغييب العقل، جعلت من المستحيل وضع دراسة علمية للشخصية المصرية المعاصرة على الأقل، ولذلك يجب أن نصوغ نموذجا متوازنا لعناصر الشخصية المصرية المطلوبة وأن نغفل الدراسات الموجهة السابقة التي كانت تريد إرضاء السلطة، وأن نحدد كيف يمكن توجيه الشعب بشكل موضوعي إلى تبني هذه الخصائص، وأن نحدد أيضا أدوار النخب الجديدة في بناء هذا النموذج.

وأرجو أن توجه الدراسات الاجتماعية والرسائل العلمية في الجامعات المصرية لمراجعة الدراسات السابقة حول الشخصية المصرية، وكذلك متابعة بعض الخصائص وجذورها التاريخية، علما بأنه من الضروري أن يشترك المصريون المستنيرون في الغرب في تشكيل هذا النموذج، واستبعاد كل من ساهم في بناء نموذج خيالي في عصور سابقة، وأن يركز النموذج الجديد على تمحيص بعض الخصائص، مثل النفاق والتدين المظهرى وانقسام الشخصية، وأثر البيئة والتربية في السلوك الشخصي، ومدى استعداد بعض المواطنين للجمع بين المتناقضات والتعايش، وتفضيل المصالح الشخصية حتى لو كانت على جثة الوطن، ومراجعة مفاهيم الوطنية والصبر والأصالة وغيرها.

وبالطبع كان يجب أن يقوم بهذا الدور المركز القومي للبحوث الاجتماعية، ولكن هيمنة السلطة على دراساته أفقدته المصداقية الواجبة. ولذلك أوصي بأن يقوم بهذا الدور نخبة من المصريين في أوروبا والولايات المتحدة، على أساس أنهم أصلا مصريون، وأنهم في نفس الوقت على مسرح معاصر فيجمعون بين مختلف العوامل اللازمة لجودة هذه الدراسة.
التعليقات (1)
د ابراهيم الديب رئيس مركز هويتى لدراسات القيم والهوية اسطنبول
الإثنين، 14-06-2021 03:36 ص
بالغ الشكر والتقدير للمفكر والمجاهد السياسى والاخ العزيز دعبدالله الأشعل على هذه المقالة الرائعة ، والغنية بالأفكار والأمثلة والتطلعات والآمال والتكليفات العملية الواجبة وابشر حضرتك اننا في مركز هويتى نعمل على انجاز ما طلبت حضرتك خاصة بعد إجراء عملية مسح لما كتب عن الشخصيةالمصرية بداية من بن خلدون والجبرتى وجمال حمدان واحمد زايد و الفرنسى جاك باركن والروسى موريس هيندوس ...الخ الى الكتاب المعاصرين بالاضافة إلى ما نقوم به من مسوحات ميداينة خاصة من 2011 وحتى الآن وان شاء الله قريبا تقر عين حضرتك بكتاب خاص عن النموذجالامثل للشخصية المعياريةالمصرية يليق بقيمة وتاريخ ومهمة ومستقبل مصر ان شاء الله