قضايا وآراء

بعد معركة الصلاحيات: هل يعتمد الغنوشي استراتيجية "المرور بقوة"؟

بحري العرفاوي
1300x600
1300x600
لم يُمض رئيس الجمهورية على قانون المحكمة الدستورية للمرة الثانية، رغم أن نسبة التصويت عليه كانت مرتفعة 141 صوتا، وهو ما يؤكد وعيا بضرورة إنشائها.

كان ثمة أمل بأن السيد قيس سعيد رئيس الجمهورية قد يصادق على ذاك التعديل فيسهل إرساء المحكمة الدستورية، ضمن سلة تفاهمات مع مختلف الأطراف السياسية والمنظمات الوطنية في إطار حوار وطني عرضه الاتحاد العام التونسي للشغل، وعبرت أغلب الأطراف السياسية والمنظمات الوطنية على المشاركة فيه. وظل موقف الرئيس مترددا بين إعلان القبول به وبين التساؤل عن هوية المحاورين يتهمهم بالفساد والنفاق؛ وبين القول بـ"إمكانية التفكير في الاستعداد لحوار حول تصور للحوار"، وهو ما عبر عنه عند استقباله في قصر قرطاج أمين عام حركة الشعب السيد زهير المغزاوي، وقد تكلم في الأزمة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وعن حوار حول تصور للحوار. فقد ورد في الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية: "وأبدى رئيس الدولة استعداده لتصوّر للحوار للخروج من هذا الوضع الذي تعيشه تونس. وشدّد على أنه لا بدّ أن يكون حوارا مختلفا عمّا عرفته بلادنا في الأعوام الماضية، ويجب البحث عن حلول جدّية لقضايا الشعب التونسي لأن تشخيص المشاكل متفق عليه، أما ما هو موضوع خلاف فيتعلق بالنزاعات المعلنة وغير المعلنة حول المناصب والامتيازات. وأكّد رئيس الجمهورية على أن الشعب التونسي شخّص مشاكله بنفسه، ويمكن أن يكون الحوار إطارا تُحدّد فيه وتُرتّب الحلول النابعة من الإرادة الشعبية".

قيس سعيد يعتبر نفسه متكلما باسم الشعب - بدل البرلمان - وهو من يفهم لغة الشعب ومن يعبر عن إرادته، ومن يصوغ تشخيصه للأزمة ليفرض من خلالها "الحلول".

مراقبون يرون أنه إذا ظل الرئيس على "انحباسه السياسي" وترديد شعار الصلاحيات فإن الواقع بصدد التحرك ولن ينتظره وسيجد نفسه "معزولا" بالنتيجة، فهناك واقع اجتماعي ومصاعب عيش وأزمة مالية ووضع صحي حرج، وكلها تحتاج العمل معا لإنقاذ السفينة بمن فيها ومن عليها، وحتى بمن حولها في بحر إقليمي ودولي مائج.
حركة النهضة وحلفاؤها ورئيس الحكومة يتقدمون في الواقع ويتوسعون في دائرة الفعل، في حين ما زال الرئيس يردد خطاب الصلاحيات والشعارات ويحاول تسجيل نقاط "شكلية" ضد من يعتبرهم "خصوما"، وتحديدا ضد رئيس الحكومة ورئيس البرلمان

حركة النهضة وحلفاؤها ورئيس الحكومة يتقدمون في الواقع ويتوسعون في دائرة الفعل، في حين ما زال الرئيس يردد خطاب الصلاحيات والشعارات ويحاول تسجيل نقاط "شكلية" ضد من يعتبرهم "خصوما"، وتحديدا ضد رئيس الحكومة ورئيس البرلمان. وآخر تلك "الأهداف" تناوله إفطاره مساء السبت بمقر وزارة الداخلية مع كبار مسؤولين فيها، في غياب وزير الداخلية بالنيابة هشام المشيشي. وقد ورد في الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية: "أدّى رئيس الجمهورية قيس سعيّد، مساء اليوم 8 مايو 2021، زيارة إلى مقر وزارة الداخلية أين شارك السيد المدير العام للأمن الوطني والسيد آمر الحرس الوطني والسيد المدير العام للحماية المدنية وثلة من إطارات الوزارة وأعوانها مأدبة الإفطار. وكان هذا اللقاء مناسبة أكّد من خلالها رئيس الجمهورية على وحدة الدولة وعلى الدور الهام الذي تضطلع به وزارة الداخلية كوزارة سيادية".

من مزايا الديمقراطية كونها لا تُبقي على مشهد ثابت بل إنها دائمة التغيير.. حركة النهضة ليست قضاء وقدرا والرئيس ليس قضاء وقدرا، ومن أراد إخراج طرف من المشهد عليه بالاشتغال على الديمقراطية وانتظار مواعيد الانتخابات.

حركة النهضة واقع قائم على الأرض وعلى خصومها الكف عن الشعارات والاتهامات، ومن له ملف فساد أو مخالفات للقانون عليه الذهاب إلى القضاء، بدل استنزاف وقت التونسيين في العراك والشتائم والادعاءات والإشاعات دون دليل.
حركة النهضة واقع قائم على الأرض وعلى خصومها الكف عن الشعارات والاتهامات، ومن له ملف فساد أو مخالفات للقانون عليه الذهاب إلى القضاء، بدل استنزاف وقت التونسيين في العراك والشتائم والادعاءات والإشاعات دون دليل

التهديد باللجوء إلى الشارع لتحريكه ضد حركة النهضة، سواء باعتبارها في الحكم أو باعتبارها "حركة إخوانية"، لم يعد مجديا بالمرة وعلى أصحابه أن يكونوا واقعيين، فمسيرة 27 شباط/ فبراير أثبتت أنه لا أحد بمقدوره منازلة حركة النهضة في الشارع بالمعنى الشعبي وبالمعنى النضالي، فهي خبرت الشوارع والتعبئة الميدانية أيام بورقيبة وابن علي.

وإذا لم ينخرط الرئيس - وفي أقرب وقت - في نداءات الحوار الوطني، فإن تجاوزه مسألة حتمية بالنظر إلى فعل قوى أخرى ميدانيا في الداخل وفي الخارج، وقد استمعنا إلى الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل في كلمته في عيد العمال، يحمّل رئيس الجمهورية مسؤولية تعطيل الحوار ويرد على قوله "اليوم صبر وغدا أمر" بالقول: "لقد نفد صبرنا، وأما الأمر فسيكون قريبا"، وهو ما يُفهم على كونه إنذارا للرئيس بكون الوضع لا يحتمل الانتظار وبكون الحوار يمكن أن يتم دون مشاركة الرئاسة.

يُجمع مراقبون كثيرون على أن الرئيس هو من يعطل الحوار، والسؤال هو: لماذا "يتهرب" الرئيس من الحوار؟ هل فعلا لأن كل الأطراف "فاسدون" و"منافقون" كما يحلو له وصمهم؟ بعض المحللين يفسرون تهربه ذاك بكونه ليس له من يحاور بهم، إذ ليس له حزب أو حزام سياسي، وهو ما زال يرى نفسه في مرحلة الحملة الانتخابية أو ما يسميها أنصاره بـ"الحملة التفسيرية".

بعض خصوم النهضة لا ينقدون الرئيس بل يدعمونه، ليس اقتناعا بـ"مشروعه" الذي لا يعرفونه، وإنما يدعمونه لأنه - بنظرهم - يُتعب حركة النهضة وربما سينجح في إفصائها من الحياة السياسية. هؤلاء يطالبون حركة النهضة - وهي الحزب الأكبر في البلاد - بتقديم تنازلات سواء بالاستجابة لمطالب الرئيس التعجيزية سواء بالتخلي عن حلفائها في الحكومة وفي البرلمان.. يتجاهل هؤلاء أن التنازل يكون متبادلا حيث ينزل كل طرف عند بعض رغبة الطرف الآخر بما يحقق تقاربا وتوافقا، والتنازل لا يكون إلا في سياق حواري، وحركة النهضة على لسان رئيسها الأستاذ راشد الغنوشي دعت مرات للحوار وهي مستعدة دائما للتنازلات من أجل المصلحة الوطنية، وقد تنازلت عن الحكم أيام الحوار الوطني في 2013 وجنبت البلاد الغرق في الفوضى. والغنوشي صاحب نظرية "التوافق" قد دفع كلفة توافقاته حتى لدى أبناء حركته، بل إن الرئيس قيس سعيد نفسه يسخر من ذاك التوافق ويعتبره "نفاقا".

رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي الذي التزم منذ شهر كانون الثاني/ يناير 2020 بالكف عن ممارسة الدبلوماسية البرلمانية احتراما لرغبة الرئيس قيس سعيد، ها هو اليوم يجد نفسه مجبرا عن الخروج من ذاك "الالتزام" بسبب أوضاح البلاد الحرجة وما تحتاجه من تحرك لدى الأشقاء والأصدقاء طلبا للدعم.
لم يعد ممكنا لحركة النهضة ولحكومة المشيشي المزيد من الانتظار، وقد تأكد أن استراتيجية الرئيس ومن معه من أحزاب صغيرة هي انتظار انهيار الدولة لتحميل حركة النهضة مسؤولية الفشل، ثم التقدم كـ"منقذين" للوضع ومحاسبين للفاشلين

زيارة الغنوشي لقطر حققت الكثير، كما ورد في بيان المكتب التنفيدي لحزب النهضة حيث نقرأ: "وفي اطار الدبلوماسيّة الحزبيّة، وما يعتزم رئيس الحركة الأستاذ راشد الغنوشي القيام به من زيارات لعواصم عربية وغربية، تسجل الحركة بإيجابية نتائج الزيارة الناجحة التي تمّت الى دولة قطر الشقيقة لتعزيز التعاون بين البلدين والرفع من الدعم الاقتصادي والصحي".

لم يعد ممكنا لحركة النهضة ولحكومة المشيشي المزيد من الانتظار، وقد تأكد أن استراتيجية الرئيس ومن معه من أحزاب صغيرة هي انتظار انهيار الدولة لتحميل حركة النهضة مسؤولية الفشل، ثم التقدم كـ"منقذين" للوضع ومحاسبين للفاشلين.

الرد على هذه الاستراتيجية قد بدأت فعلا باستراتيجية مزدوجة: "المرور بقوة" و"صناعة أمر واقع" يكون هدفه خدمة الناس في معاشهم وصحتهم وأمنهم، لا فقط من منطلق حسابات سياسية، وإنما وأساسا من منطلق المسؤولية الوطنية، فمصلحة التونسيين قبل الأحزاب وبل الأيديولوجيات.

twitter.com/bahriarfaoui1
التعليقات (0)