أفكَار

ماذا تبقى من المشروع الفكري للدكتور عبد الله العروي؟ (2من2)

عبد الله العروي تبنى مفهوم (اللبرلة من فوق) أي اللبرلة التي تفرضها الدولة بشكل قسري على المجتمع (فيسبوك)
عبد الله العروي تبنى مفهوم (اللبرلة من فوق) أي اللبرلة التي تفرضها الدولة بشكل قسري على المجتمع (فيسبوك)

للمرة الثانية، يتم نشر إشاعة وفاة المفكر المغربي عبد الله العروي دون أن يتولى تكذيبها، ويضطر المركز الثقافي العربي الناشر لكتاباته للقيام بالمهمة بدلا عنه، وتبشير قرائه أن المثقف العربي لا يزال على قيد الحياة، وأنه يتمتع بالصحة والحيوية والقدرة على الإبداع والعطاء.

بعض المنابر التي سارعت إلى تصديق الخبر، وربما نشره على أوسع نطاق، بدأت تهيئ ملفات إعلامية حول سيرة الرجل وأدبياته وتراثه ومشروعه الفكري، قبل أن تضطر إلى الاعتذار للقراء عن نشرها خبرا غير صحيح من المؤكد أنه أضر بالرجل وعائلته الصغيرة والكبيرة.

والحقيقة ـ بعيدا عن دائرة الإشاعة ومخالفاتها ـ فإن السؤال الذي ينبغي طرحه، ليس هو تراث الرجل ومشروعه الفكري، فهذا مما سال مداد كثير في التبشير به، ونقده وربما نقضه أيضا، وإنما السؤال الذي يلزم طرحه اليوم، بعد أكثر من خمسين سنة من التأليف في حقول معرفية مختلفة (فلسفة، تاريخ، أدب، سياسة....) هو ماذا تبقى من مشروعه الفكري؟ وهل لا يزال هذا المشروع يمتلك راهنيته وقدرته على التفسير أم أصبحت منطلقاته ومخرجاته خلف الظهر، لا تتمتع بالجاذبية التي كانت لها منذ السبعينيات وإلى غاية التسعينيات؟ وهل أصبح سؤال ما بعد العروي مشروعا، لا سيما بعد أن اتجه خط التاريخ في غير المسار الذي كان يدفع إليه دفعا حينما تبنى أطروحته "التاريخانية" كبديل عن الانتظام الماركسي الأرثودوكسي؟

يحاول هذا البحث، أن يستعرض الإضافات النوعية التي قدمها العروي في حقول مختلفة، لا سيما التاريخ والفلسفة، ويختبر مدى راهنيتها، والقدرة التفسيرية التي تمتلكها، وما إذا كانت قد استنفدت أغراضها، ولم تعد تتمتع بأي جاذبية في المشهد الثقافي.


العروي.. الليبرالية كخيار انتقالي شرطي

يتبنى العروي قراءة أخرى للماركسية، فالتمكين للثقافة والمنهج الماركسي، يقتضي بالضرورة إحداث قطيعة مع الثقافة الأم، مع التراث الذي يمثل أحد أهم عناصر التقليد، إن لم يكن هو التقليد نفسه، ولذلك، لا يتردد في تبني خيارات أخرى، لخوض المعركة مع التقليد، ولو باللجوء إلى الثقافة التي أضحت نقيض الماركسية، فالعروي، يرى أنه ليس هناك طريق لهزم التقليد سوى بالليبرالية، أي نفس الطريق الذي تلتزمه أوروبا لهزم تقليدها، وأن أي معركة ثانوية بين الماركسية واليبرالية، ستكون خادمة للتقليد. وأن المخرج في تبني طريق ثالث، هو الانتظام في ماركسية تاريخانية (ماركسية مقروءة بطريقة معينة)، وأن المرور إلى هذه المرحلة يقتضي مرحلة وسيطة انتقالية، هي مرحلة تبني الليبرالية.

فالطريق الذي سلكته أوروبا للتحرر والنهضة ـ بالنسبة إلى العروي ـ هو ما يلزم الأخذ به، وأن الماركسية التاريخانية، هي التي ينبغي أن تضطلع بهذه الوظيفة، بصفتها الوارثة للفكر الليبرالي. ويرى تبعا لذلك، أن إخفاق النهضة العربية كان بسبب الإخفاق في توطين الفكرة الليبرالية في الوطن العربي.

ويكمل العروي تقييمه للأزمة، فيلمح لمظهر ثان من مظاهرها، وذلك في سياق حديثه عن أزمة المثقفين العرب، ويركز له بعدم الوضوح الإيديولوجي لدى هؤلاء المثقفين، وترددهم في إدارة المعركة ضد التقليد، وعدم تبني الماركسية التاريخانية، التي تقرأ الواقع، وتعرف الخيارات التكتيكية، التي يلزم اتباعها من أجل المرور إلى الأهداف الاستراتيجية، التي حددتها النظرية الماركسية، وما يعنيه ذلك من التواطؤ على مرحلة وسيطة، ليبرالية، هي ذات المرحلة التي مرت منها أوروبا للقطع مع الماضي، والتأسيس للنهضة. 

العروي.. اللبرلة من فوق

والمثير في رأي العروي، أنه جنح في آخر كتاباته السياسية (ديوان السياسة) و(السنة والإصلاح) إلى تبني مفهوم (اللبرلة من فوق) أي اللبرلة التي تفرضها الدولة بشكل قسري على المجتمع، دون أن تكون النخب الفكرية قد هيأت لها، ودون أن يكون المجتمع قد تهيأ لها، لأن المرحلة الليبرالية في نظره ضرورية وشرطية لأي مشروع نهضوي عربي.
 
وهكذا يتحصل من مفهوم الأزمة عند العروي بعدان أساسيان، البعد الأول، ويتمثل في اعتماد المنهج التقليدي أساسا للنهضة، والجواب عنه هو (الماركسية التاريخانية)، التي تتوسل الليبرالية مرحلة انتقالية، من أجل تحقيق القطيعة، ووضع المجتمعات العربية في مسار النهضة، وبعد آخر بيداغوجي، مرتبط بالوضوح الإيديولوجي الذي يفترض أن تكون عليه النخب القادرة على تنزيل هذا الخيار، باختيار التكتيك المناسب لكل مرحلة، لتحقيق الأهداف الاستراتيجية، وما يتطلبه ذلك، من البدء من حيث بدأت أوروبا نهضتها، أي من الليبرالية، باعتبارها خيارا انتقاليا نحو تحقيق الأفق الماركسي.

العروي.. في خلفيات العودة لمونتسكيو

ثمة تساؤل مشروع عن خلفية اهتمام عبد الله العروي في آخر أدبياته بتراث مونتسكيو لا سيما كتابه "تأملات في تاريخ الرومان أسباب النهوض والانحطاط" وكتابه روح القوانين، فقد عمد العروي إلى ترجمة هذين العملين، وتقديمهما إلى القارئ العربي.

والحقيقة أن فيلسوف التاريخانية، لا يعبث باختياراته البحثية، وأن كل ما كتبه يندرج ضمن مشروع مرتب الحلقات والأولويات، بما في ذلك كتاباه في السياسة (السنة والإصلاح) و(ديوان السياسة) فضلا عن محادثاته على غير المعتاد مع صحفي ضمن (أحاديث الصباح).

الظاهر أن الأمر يتعلق بحقل التاريخ أو حقل التأريخ، فمحاولة مونتسكيو اندرجت ضمن عمل تاريخي تحليلي لأسباب نهوض الإمبراطوية الرومانية وعوامل تدهورها، لكن الأعمال من هذا الشكل كثيرة، فما الذي يبرر اشتغال العروي على أعمال مونتسكيو دون غيرها؟

لا يترك العروي الغموض يستبد بالقارئ، فالرجل، اهتم بأعمال منوتسكيو لأن نظرته التأملية، ومنهجه التاريخي الذي يعتمد الملاحظة والمقارنة والموازنة، يذكر بأعمال مكيافيلي في الأمير، وابن خلدون في المقدمة، أي أنه يدعم مواقع الأطروحة التاريخانية التي اشتغل العروي على تثبيتها والمرافعة لصالحها.

 

المثير في رأي العروي، أنه جنح في آخر كتاباته السياسية (ديوان السياسة) و(السنة والإصلاح) إلى تبني مفهوم (اللبرلة من فوق) أي اللبرلة التي تفرضها الدولة بشكل قسري على المجتمع، دون أن تكون النخب الفكرية قد هيأت لها، ودون أن يكون المجتمع قد تهيأ لها

 


رؤية مونتسكيو كما يوضحها العروي تدعم الأطروحة التاريخانية، فأسباب نهوض روما بالنسبة إلى مونتسكيو، هي نفسها التي أدت إلى الخلل والانحطاط ثم الانهيار، هي الأسباب التي تعود "إلى التشريع، والتربية، ورعاية الأعراف، وتدبير المعاش، ورسم الضرائب، وتعبئة الجيش... أعمال يقوم بها البشر في ظروف خارجة عن إرادتهم. 

يقول: إن الجمهورية لو لم تمت على يد يوليوس قيصر لماتت على يد زعيم آخر يتصف بأوصاف قيصر. يقول: إن جيش هنيبعل لو لم ينحل في قصور "كابو" لانحل في قصور أية مدينة غير "كابو". يقول: إن العرب كانوا مؤهلين لتأسيس دولة خاصة بهم على أنقاض دولتي الفرس والرومان متى سنحت الفرصة".

البعض حاول أن يقرأ في توجه العروي لمونتسكيو أبعادا سياسية، فمونتسكيو لم يكن يعبث باختياره لدراسة تاريخ الرومان، إنما أراد أن يدخل في مقارنات وموازنات لتقديم الدروس للتجربة الفرنسية، التي كانت ترزح لأكثر من قرن ونصف تحت حكم مطلق (أزيد من نصف قرن من حكم لويس الرابع عشر) خلط بين مصلحته الأسرية ومصلحة الدولة، فجعل مونتسكيو تاريخ الرومان بمثابة مادة مقارنة لبعث رسالة سياسية إلى الحكم في فرنسا، للبحث عن خيار آخر لفرنسا غير الخيار الذي انتهجته روما وانتهى بها إلى تدهور الإمبراطورية الرومانية واعتماد سياسة وطينة لا تتأثر باعتبارات الفرد والأسرة المالكة.

كل الخلفيات ممكنة، لكن سواء تعلق الأمر بتكريس مفردات المنهج التاريخاني أو توجيه رسائل إلى الدولة بضرورة تحكيم منطق المصلحة الوطنية على الاعتبارات الخاصة، فإن الذي يجمع بين الأمرين، هو أن قضية التاريخانية، والمرور من المرحلة الوسيطة (الليبرالية) هو شرط أساسي في النهوض، وأن الدولة، ينبغي أن تعي أن مصالحها الاستراتيجية، مرتبطة بلعب دور في هذا الاتجاه (اللبرلة من فوق) وأنها إن لم تفعل فستكون مثلها في ذلك مثل امبراطورية الرومان مهددة بالتفكك والضعف.

ماذا تبقى من العروي؟

تتعدد طرق الإجابة عن هذا التساؤل، فتقييم أثر مشروع العروي، لا يكتفى فيه بالبعد المعرفي، أي الإضافة المعرفية والمنهجية التي قدمها لبعض الحقول المعرفية (التاريخ، الفلسفة...)، وإنما يفترض أن يناقش المشروع في ضوء تحققاته، وفي ضوء القدرة التفسيرية التي بات يمثلها.

من حيث التحققات، لا شيء يدعو إلى التفاؤل، فالعروي نفسه، في مشروعه النقدي انتبه إلى أن النخب العربية، بما في ذلك النخب الماركسية نفسها، وإن كانت تتطلع إلى التحديث، إلا أنها تتبنى مثلها مثل التيار السلفي، المنهج التقليدي، وتعمل على ترسيخه، ولهذا السبب يمكن أن نقيم تحقق مشروع العروي من زاوية هزم التقليد بالفشل، فالتقليد سواء ببعده السلطوي، أو ببعده الديني، لا يزال هو المستحكم، ولم يتغير شيء في تمثلات العقل العربي تجاه التقليد وأدواته.

ومع أن تاريخانية العروي كانت أكثر براغماتية، فاختارت أن تتجنب الأرثودوكسية الماركسية التي لا تقبل منتصف الحلول، فتبني مرحلة انتقالية هي الليبرالية، إلا أن تحقق المشروع فشل هو الآخر، مع أن المرونة التي تميز بها مشروع العروي اتسعت كثيرا، بالانفتاح على مفهوم اللبرلة من فوق، ودور الدولة في ذلك، وفتحت المجال لتحالفات موضوعية بين قوى ذات خصومة عقدية، مثل القلاء بين الماركسية والليبرالية.

نقطة الفشل الثالثة التي ارتبطت بمشروع العروي، هي ارتساماته عن النخب السلفية، فبقدر الهجوم الذي مارسه ضد تراث علال الفاسي ومالك بن نبي والتيارات السلفية والإسلامية، إلا أن الواقع التاريخي، جرى على خلاف ما توقع العروي، إذ تراجعت أطروحة العروي، وأصبحت في الظل، بينما تكرست هيمنة التيارات الإسلامية على المشهد الثقافي والسياسي العربي.

 

إقرأ أيضا: ماذا تبقى من المشروع الفكري للدكتور عبد الله العروي؟ (1من2)

التعليقات (1)
شموع خالدة
السبت، 03-04-2021 06:41 م
العلامة “أبو الحسن علي الحسني الندوي” رحمه الله، رئيس ندوة العلماء بالهند، الذي جمع إلى علمه الغزير أدباً جماً، وفكراً ناشطاً، والتزاماً بالإسلام كما عرفه أهل السنة والجماعة، لا يحيد عنه، ولا يترفع على أحد منهم، بل يحسب نفسه خادماً لهم، وهو في قدر رفيع، ومكانة سامية، وهيبة وعلم، وكأنه مدرسة بنفسه، جعل حياته كلها للدعوة والتربية، ونشر الفكر الإسلامي الملتزم. ثم يأتي الشيخ “محمد الغزالي” رحمه الله، الذي كان قمَّة في النشاط الإسلامي: دعوة إليه، ومنافحة عنه، وتكريساً لأحكامه. وكان ناراًَ على أعدائه، مع عزَّة في النفس، هي عزَّة المؤمن على الجاهلية والجاهليين، ونفسٍ عصامية تقدر أن تعيش وحدها في الحياة، إذا كانت هي وحدها على الحق، وكانت كتبه منارة بيضاء، وشعلة ضياء في هذا العصر، للمسلمين عامة، وللمتكلمين بالعربية خاصة، وقد وجدوا فيها جميعاً الجديد والمفيد، والتنبيه إلى المكائد التي تكاد للإسلام والمسلمين، مع شجاعة في طرحها وكشف أصحابها، وقوّة فكر وأصالة، وذكاء وحجَّة في معالجتها والرد على أهلها، من المستشرقين والملاحدة والعلمانيين، الذي يعادون الإسلام وهم بين أهله، ويريدون إقصاءه من منهج الحياة في أرضه. لقد كان قذيفة حقٍّ مثل كتابه “قذائف الحق” {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [سورة الأنبياء: 18]. وقد خاض معارك لأجل ذلك، وانتصر بانتصار الإسلام وعلوِّ حجته. ويأتي بعد هذا آخرون من المفكرين الإسلاميين المعروفين، بمدارسهم وأساليبهم الخاصة والعامة في هذا العصر، منهم الشيخ “محمد متولي الشعراوي” رحمه الله، الذي أعاد حلاوةَ الإيمان إلى القلوب بعلمه الفائض وأسلوبه المتميز في الدعوة، وفي تفسير كتاب الله عز وجل، حتى غدا حديث الساعة، وقصة الناس في مجالسهم. ولن يُعدم الحديث عن مفكرين عظماء آخرين في بلاد الإسلام، مثل العلامة “عبدالحميد بن باديس” باعث النهضة الإسلامية في الجزائر المجاهدة، ورئيس جمعية العلماء المسلمين بها. و”مالك بن نبي” رحمه الله، الذي جابه حضارة الغرب بعظمة حضارة الإسلام، واحتجَّ بالدين والعقل والثقافة في مجابهة أعداء الدين، وبيَّن قوة الإسلام وعدالته في النطاق المعرفي والخلقي والاقتصاد .