كتب

عصر الصورة.. قراءة سيميائية في مشروع الراحل شاكر عبد الحميد

مثلت الصورة على مدار التاريخ موضوعا للتفكير الفلسفي- (عربي21)
مثلت الصورة على مدار التاريخ موضوعا للتفكير الفلسفي- (عربي21)

الكتاب: "عصر الصورة: السلبيات والإيجابيات"
الكاتب: شاكر عبد الحميد
الناشر: سلسلة "عالم المعرفة"، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت يناير 2005، عدد 311
عدد الصفحات: 464 صفحة.


رحل الناقد المصري الكبير شاكر عبد الحميد هذه الأيام، بعد أن نال منه فيروس كورونا المستجد. وتكريما لمشروعه الجبار في خدمة الثقافة العربية وفتح نوافذها على الحداثة آثرنا أن نسلط حزمة من الضوء على أحد مؤلفاته "الصورة: السلبيات والإيجابيات"، وأن نجعله عينة تذكر بمشروعه الفكري الضخم والفريد. والراحل أكاديمي متخصص في دراسات الإبداع الفني والتذوق عمل أستاذا لعلم نفس الإبداع في "أكاديمية الفنون" بمصر. وتقلد مناصب إدارية وأكاديمية عديدة ونال جوائز علمية كثيرة، أبرزها جائزة الشيخ زايد للكتاب، فرع الفنون والدراسات النقدية 2012.

 


1 ـ مشروع جبّار وكتابات عميقة

في ثقافتنا العربية كثير من مبدعي الأثر الواحد أو المجيدين في كتابات متباعدة الاختصاصات. أما الذين يحفرون عميقا في الاختصاص نفسه ويذهبون بعيدا في التأسيس لمشروع حياة متكامل يكشف تصوّرا متدرجا متطورا وفق منهج واضح فقلة. وشاكر عبد الحميد أحدهم. ومدار مشروعه على مباحث الصورة وعلى الفنون البصرية عامة. فقد كان سبّاقا إلى الاهتمام بهذا المبحث ودرس جمالياته وفنونه وفق مقاربة فلسفية ـ حضارية، وعرفانية ـ إدراكية. وأفاد من دراسته لعلم النفس ليفرض نفسه شخصية علمية متميزة صاحبة اختصاص فريد. 

ومن طريف ما أنجز نذكر "دراسات نفسية في التذوق الفني" و"التفضيل الجمالي، دراسة في سيكولوجية التذوق الفني". و"الفنون البصرية وعبقرية الإدراك" و"المفردات التشكيلية، رموز ودلالات". وفتح علم النفس على النقد الأدبي فكتب "مدخل إلى الدراسة النفسية للأدب" و"الأسس النفسية للإبداع الأدبي في القصة القصيرة خاصة" أو على الظواهر الحضارية فحبّر "التفسير النفسي للتطرف والإرهاب" وغير ذلك كثير. فكانت مسيرته العلمية تجسيدا للنضال على المستوى الثقافي والعلمي وكانت كتاباته مثالا للدراسات البينية التي تفتح الاختصاصات على بعضها البعض وتؤمن بأن الإبداع كلّ متفاعل وإن تباعدت الأنماط الفنية أو الأجناس.

2 ـ كتاب عصر الصورة.. السلبيات والإيجابيات

يخوض كتاب "عصر الصورة.. السلبيات والايجابيات" الذي نورده باعتباره عينة من تفكير شاكر عبد الحميد، في تفاصيل كثيرة من خصائص الصورة وتاريخ التفكير فيها ووجوه استعمالاتها، يعسر عرضها مجتمعة في مثل هذه المساحة التحريرية الضيقة. وفي مثل هذه السياقات نفضّل تقديم أهم المفاهيم والمقولات التي ينطق بها الأثر، وجميعها على صلة بعلم الصورة ودور الإدراك في تمثلها وفلسفاتها المختلفة وعلاقتها بمختلف الفنون، على تتبع التفاصيل خطيا..

3 ـ في أصناف الصور ووجوه توظيفها

لا يستطيع الباحث أن يتخيّل الحياة المعاصرة دون استدعاء الصور. فيراها منتشرة في كل مكان ومجال، في الفنون والإشهار والأخبار والسياسة. ويجدها تسهم بشكل رئيسي في تشكيل الوعي وفي التعبير عن كل لحظة من لحظات عيش الإنسان. فترفد الكلمة وتثريها، وكثيرا ما تحل محلها. وفي الآن نفسه تؤثر على العقل الباطن وتستهدف اللاوعي وتوجهه بخيوط سحرية، من حيث لا يعلم المرء، حيث تريد. ولعل هذه السمة ما جعل الفرنسي رولان بارت يصف الحياة المعاصرة بحضارة الصورة أو جعلنا نتحدث عن "مجتمع المشهد" أو "مجتمع الفرجة أو "العرض".

وأنواع الصور كثيرة جدا. منها الصور الناشئة عن الإدراك المباشر لعالم المبصرات، ومنها التمثيل العقلي للخبرات الحسية التي لا تكون تمثيلا بصريا بالضرورة. ويعرض تجربة المدرسة البنائية في علم النفس التي ترى في الصورة، مضافة إلى الوعي والشعور، إحدى مكونات الوعي الثلاثة. ومنها الصورة الذهنية. وقد يطلَق المصطلح على اتجاه عام في التفكير نحو حديثنا عن صورة الحسين في كتابات السنة أو كتابات الشيعة. ومن الصور التي يذكر عناصر الأحلام ومفردات التخييل وصور الذاكرة والصور الرقمية والصور الفوتوغرافية الأيقونية التي تقوم على المضاعفة الآلية لأشياء العالم الخارجي.

واختلفت استعمالات الصور عبر مراحل التاريخ المتلاحقة وشهدت تحولات كثيرة. فقد ظهر الفن، أوّل نشأته، باعتباره تعبيرا عن المذاهب الدينية. وتطور في المعابد الكنائس. ثم خلع زهده في التاريخ الحديث فغادرها إلى الحياة العامة وانخرط في لجّها وصخبها، حتى باتت الصورة اليوم تلعب أخطر الأدوار في الحياة الاجتماعية والسياسية والعلاقات الدولية.

ولم يشمل التّغيير وظائفها فقط، فسبل تشكيلها مثلت ثورة حقيقية على أيامنا. فأضحت قابلة للتحول والتبديل وتغيير بعض خصائصها اعتمادا على البرمجيات والذكاء الاصطناعي. وهذا ما سيؤثر عميقا في كيفية صناعة وعي الأفراد والمجتمعات بذواتهم وهوياتهم والأدوار التي تعهد لهم في هذا الكون. فإذا الصورة التي كانت تمثل وهما وانعكاسا للأشياء، تضحي أكثر واقعية من الواقع ذاته. فتحل محله وتزيفه أو تهمشه وتغير وعينا به. ولنتمثل أطروحته بشكل أفضل يخصص فصلا يشرح فيه خصائص الإدراك من وجه نظر عصبية. فيبيّن كيفية تحقق الإبصار ويعرض المسار البصري العصبي للمثيرات.

ويبرز أنّ المخ ينقسم إلى مناطق تختلف باختلاف النشاط المراد كالعمل المنطقي الحسابي أو النشاط الانفعالي. تنتهي به هذه المعطيات العلمية إلى تأكيد عدم تطابق الصورة الشبكية مع الصورة العقلية وإلى البرهنة على أنّ العقل هو الذي يخلق المعنى وأن عملية الإدراك التي يقوم بها هي عملية مركبة يتفاعل فيها العصبي مع الاجتماعي والنفسي. ولكنه كثيرا ما يكون ضحية للملاعبة والخداع.

4 ـ فلاسفة الصورة

مثلت الصورة على مدار التاريخ موضوعا للتفكير الفلسفي. وشكل تاريخ البحث فيها مسارا يعبر من تهميشها واعتبارها وهما وشركا إلى التسليم بدورها في صناعة الوعي وتشكيل الهوية. ونختزل عمل الباحث في عرضه لبدايات التفكير الفلسفي فيها انطلاقا من "كهف أفلاطون" حين افترض وجود محبوسين تحت الأرض وتصوّر وجود مسرح خلفهم، خلفه نار يعبر أمامها المارة وهم يحملون تماثيل لحيوانات. فيرى المساجين انعكاس الظلال على الجدار من أمامهم ويسمعون أصوات الحراس فيعتقدون أنها أصوات الظلال ويخمنون دلالة تلك الكائنات الوهمية فيجانبون الحقيقة، ليبرهن على أنّ الفن محاكاة للمحسوسات في العالم. وهي بدورها محاكاة لأصل الأشياء في العالم العلوي وليخلص إلى أنّ الفن درجة مضاعفة من الوهم ومرتبة ثالثة من الوجود وأنّ الفنان أبعد ما يكون عن الخلق والابتكار. 

ثم ينتهي بعد عرض مراحل التفكير فيها المختلف ومقولات الفلاسفة بشأنها إلى منجز علم النفس التحليلي. فقد أفاد الفرنسي لكان من مفهومي النّرجسية الأوّلية والنّرجسية الثّانوية من مباحث فرويد لتحديد مرحلة المرآة. وجعل مدارها على اكتشاف الأطفال لذواتهم وتمثّل هوياتهم الجسدية عبر تقمص شبيه بإدراك صورهم. يكون ذلك من خلال مرآة حقيقية أو غيرها من الآليات الرمزية التي تسهم في إدراك الذات. فتتحول الأنا، عبر سوء فهم، إلى موضوع يدركه الطفل من خارج ذاته باعتباره كائنا آخر، ويتقبله باعتباره صورة مرآوية تبعث في نفسه البهجة وتحقق له الرغبة في تشكيل صورة كلية تؤشر إلى بداية نضجه النفسي. ويفسّر ذلك بأنّ الأنا تندفع لتكتسب هوية بشكل أوّلي مقابل إدراك الطفل الشّذري لجسده وبكونها لا تزال عاجزة عن الحركة. 

 

يستند مشروع شاكر عبد الحميد العلمي إلى وعيه الحاد بكون حواسّنا المختلفة تشكّل قنوات ترصد العالم الخارجي. فلا ندركه ولا نتمثل أشياءه إلا من منطلقها ومن منطلق حضورنا الجسدي في العالم. وهذا ما يمثّل البعد الفردي في تعاطينا مع العلامات.

 



ومن ثمة كان لكان يرى أنّ الغريزة الشّبقية تنشأ عند الطّفل أمام المرآة، وهو يتملى صورته فيها ويدركها على أساس أنها ذات عليا مكتملة. فتتشكل في ذهنه أنا مثالية ويهيئ ذاته لتقمّصات مستقبلية مع الآخرين . وطوّر لكان من تصوّره لمرحلة المرآة لاحقا. فلم تعد عنده مرحلة في حياة الرضيع تنتهي بتجاوزها وإنما يتواصل أثرها. فأسند إليها دور توفير الهوية المرئية التي يتمّ الحصول عليها من المرآة باعتبارها "شكلًا" خياليًا لتجربة حقيقية مجزّأة. وتتعلّق بإدراك الذّات انطلاقا من الآخر. ومن هنا مثلت معبرا يفتح على النضج العقلي للطّفل. 

أما في مرحلة التّقمّص الثّانوي فيتجه الإدراك نحو البعد الموضوعي بعد أن كان يتجه إلى الذات. فيُكرس من خلال تفاعل الأنا مع الآخر وتقمّصها لصورته. وهكذا يتحوّل التقمّص من خلق أنا مرآوية إلى إيجاد أنا اجتماعيّة. وعلى هذا النّحو يتم البناء النرّجسي. فينطلق المرء من صورة الذّات لإدراك الآخر ضمانا لبعده الاجتماعي.

5 ـ في إيجابيات الصورة وسلبياتها

ينتهي شاكر عبد الحميد إلى تقييم محصّل اقتحام الصورة لحياة الإنسان المعاصر. فيلمس بعدها الإيجابي في ما هو تقني. فبفضلها يتم تذليل المسافات ومضاعفة سرعة الإنتاج والتخفيض المستمر في تكاليفه وتيسير خدمات المعلومات. ولكن خلف هذا التقني يرصد الكاتب تحولات عميقة على مستوى الثقافة والاجتماع. ففي الصورة الافتراضية التي تكتسح المجال اليوم فقدَ الحيز الفضائي بعده الإقليدي وأضحى هلاميا لا متناه. وأصبح العالم يُختزل في صور مفترضة مستلهمة من أخرى مفترضة بدورها. 

وتآكلت الحقيقة وأضحى الإنسان يعيش زيف المعنى وهيمنت ثقافة المظهر والشكل والمؤثرات المبهرة. وطالت هذه السلبيات الأفراد بقدر ما طالت المجموعات. فسادت ثقافة الكثرة والاستهلاك والنسخ والمحاكاة، وهيمنت ثقافة صناعة النجوم التي تحول البشر إلى سلع وماركات مسجلة توظفها شركات الإنتاج من أجل الربح الأقصى. وخلق هذا العالم الافتراضي جرائم جديدة تجاوزت الترويج للعنف إلى سرقات الأنترنت واختراق البيانات الخاصة وانتهاك المعطيات الشخصية. وإجمالا اختزلت الصورة على أيامنا سلم القيم الأخلاقية في كل ما هو مادي. 

ورغم تطور الذكاء البشري، تدهور مستوى التربية والتعليم في أنحاء المعمورة بأسرها بفعل تأثير عالم الزيف الذي خلفته الصورة في حياة الأطفال والمراهقين. ورغم الثورة الاتصالية الحديثة التي جعلت العالم قرية كونية أضحى الإعلام، يحرف الحقيقة ويخفيها ويعمل من خلال ذلك على تزييف الوعي ويُعلي من قيمة السطحي ويحطّ من الحقيقي والجوهري أكثر مما ينقل الحقيقة.
 
6 ـ عصر الصورة وبعد

يستند مشروع شاكر عبد الحميد العلمي إلى وعيه الحاد بكون حواسّنا المختلفة تشكّل قنوات ترصد العالم الخارجي. فلا ندركه ولا نتمثل أشياءه إلا من منطلقها ومن منطلق حضورنا الجسدي في العالم. وهذا ما يمثّل البعد الفردي في تعاطينا مع العلامات. ويفصل مشروعه ذلك إلى المستوى السيميائي والمستوى الذهني والفلسفي تفصيلا عميقا يبينه بحثه في الصورة في الأدب والسينما واللوحة التشكيلية من أثره الذي بين أيدينا. 

ولكن ما نلاحظه في هذا الكتاب، وفي عامة كتبه المتناولة للصورة هو تغييبه لأثر الاختلافات بين الأنظمة السيميائية والوسائط في تجسيد العوالم المتخيّلة وفي تحديد إنشائية كل من القصة والفيلم والمسرحية واللوحة التشكيلية ومأتى الحسن فيها. ولعل ذلك أن يعود إلى عدم صدوره عن خلفية لسانية ـ سيميائية تعي القدرة التشفيرية العالية للعلامة اللغوية. فهي تخوّل للإنسان اختزال العالم من حوله في رموز وتكفل له تواصله مع الآخر وتضمن له القيام بالعمليات الذّهنيّة المعقّدة، فبدا مشروعه متجاهلا لتأثر الأنساق اللّغوية بخصائص اللّغة الطّبيعيّة وآليات إنتاجها للمعنى من اعتباط مقتض للتّواضع والاصطلاح وتقطيع وقدرة على التّعبير عن المعاني الإنشائية وامتلاكها لمستويين لإنتاج الدّلالة هما التّقرير والإيحاء. ومتغاضيا عن كون العلامة الأيقونية، تبدو للملاحظ المتسرّع شكلا أبكم أخرس لا تمثّل فيها الأشياء أشياء أخرى غير نفسها. 

ولكن تدبرها التدبر المتأني يكشف أنها تضطلع بعمليات التشفير نفسها التي تقوم بها العلامة اللغوية، وأن كفاءتها التجريدية كائنة في الحدّ الأدنى. فلا تخوّل لنا، وحدها أن نطرح القضايا الفلسفية المعقدة أو المشاكل الرياضية المجرّدة مثلا. وهذا ما يحرمها ممّا يوازي مستوى التّقرير من العبارة اللّغوية ويقصر إنتاجها للدّلالة على الإيحاء والتّداعي والكناية والرّمز. 

وبالمقابل يضحي التّقني الصّرف كأسلوب توزيع العناصر على سطح فضاء وخصائص تشكيل الاستعارات البصريّة وتكوين الصورة فوتوغرافيّة كانت، سينمائيّة ونسب تباين أضوائها وكيفيّة تأطيرها وقدرتها على استدعاء الزّمن وقوعا على عناصر بلاغة الخطاب لغويّا كان أو بصريّا، من مسارب المعنى الأثيرة. فنحن لا نتمثل الأثر الفني إلا من منطلق وموقف فكري أو حضاري مكتسب من ممارساتنا اليوميّة ومن ذاكرتنا، خزّان تجاربنا وموسوعتنا الثقافية. فيغدو الاجتماعي في الواجهة. فقد كان من شأن هذه المقاربة أن تفتح بحثه في الأنساق البصرية على الأنساق الثقافيّة فيطرح هموم الإنسان وقضاياه ولا يقصر اهتمامه في الخصائص الأسلوبية الشكلانية.


التعليقات (0)