الذاكرة السياسية

جار الله عمر: هذه القصة الكاملة لنهاية عبد الفتاح إسماعيل

الراحل اليمني جار الله عمر يروي للكاتب والإعلامي اللبناني فيصل جلول قصة الحرب بين الشمال والجنوب (عربي21)
الراحل اليمني جار الله عمر يروي للكاتب والإعلامي اللبناني فيصل جلول قصة الحرب بين الشمال والجنوب (عربي21)

توحد الحزب الاشتراكي في آذار (مارس) عام 1979 بعد مقتل سالمين، وتوحدتْ في السياق نفسه الأحزاب الشمالية. اتحدنا مع التنظيم السياسي للجبهة الوطنية في الجنوب ونشأ الحزب الاشتراكي الموحد. كانت هذه التسمية الكاملة للحزب، دون الإعلان عن أنه يضم كل الفصائل السياسية في الشمال والجنوب. تم اختياري حينذاك عضوا في المكتب السياسي إلى جانب مجموعة من الإخوان الآخرين، من بينهم: يحيى الشامي من فرع الشمال وأحمد علي السلامي والمرادي (عبدالواحد) وعبدالله صالح عبده، وتم اختيار مخرج للموضوع أن يطلق على فرع الحزب في الشمال اسم حزب الوحدة الشعبية، وأن أكون سكرتيرا أول لهذا الفرع، إلى جانب عضويتي في المكتب السياسي للحزب الاشتراكي، الذي كان يرسم سياسات الطرفين في الشمال والجنوب معا، ويحدد المسائل الاستراتيجية.

حرب الجنوب والشمال 

كان عبد الفتاح إسماعيل أول أمين عام للحزب الاشتراكي الموحد. من جهتي استطعت أن أتعايش مع الرفاق بدون مشاكل وسارت الأمور بشكل طبيعي، إلى أن اندلعت الأزمة حول عبد الفتاح.

كان الصراع يدور حول المنطقة الوسطى وفي المناطق المختلفة كما ذكرنا من قبل، وقد خلق اغتيال الحمدي والغشمي وفشل المفاوضات بين الجبهة والشمال أجواء للحرب بين الدولتين. كان الاستعداد موجودا من الطرفين. الصراع في الشمال كان محتدما مع الجبهة الوطنية، وكانت أعمال العنف مرسلة من الشمال إلى الجنوب، ولكن فعالية الجبهة الوطنية كانت أقوى في الشمال. كل نظام كان عنده مجموعات مؤيدة له، لكن نحن كنا جزءا عضويا من نظام الجنوب، وهم كانوا يعملون من خلال الأجهزة.

كانت فاعلية الجبهة الوطنية في الشمال أقوى، وكان من تحصيل الحاصل قيام الحرب بين الشمال والجنوب بعد مقتل الحمدي والغشمي، وفشل المفاوضات بين الجبهة الوطنية في الشمال وحكومة الرئيس علي عبدالله صالح. كنت مؤيدا للحرب. كنا نأمل أن يخوض جيش الجنوب الحرب إلى جانبنا بهدف توحيد اليمن، وكان صالح مصلح وعلي عنتر فاعلين رئيسيين في هذا الموضوع. كنا نعتقد بأنه يمكن توحيد اليمن عن طريق الحرب، لكن الجامعة العربية والاتحاد السوفييتي تدخل لوقف الحرب، وضغط السوفييت علينا بشدة وأوقفوا كل الدعم لجنوب اليمن. 

كان "الجيش الجنوبي" والجبهة الوطنية يتقدم يومها بسرعة كبيرة، واحتلوا معظم لواء محافظة البيضاء من دون رادع وأجزاء من لواء إبْ. الشماليون لم يقاوموا تقريبا. جرت معركة بسيطة في السواقية لكن جيش الشمال كان قد انهار تماما، وكانت الطريق إلى صنعاء مفتوحة وأعتقد أن حرب 94 هي جزء من الرد على حرب 79. كنت خلال الحرب موجودا في جبهة الضالع ـ قعطبة إلى جانب صالح مصلح عند احتلال مدينة قعطبة بـ 19 جنديا فقط، بقيادة أحمد حسين السلامي. لم يتدخل الجيش الجنوبي أبدا في هذه العملية. وقعت خسائر جراء القصف المدفعي.

ألفت الانتباه إلى أن الجيش الجنوبي احتل أجزاء من الشمال في الحربين 1972 و1979 وكان منضبطا ويخضع للأوامر. عندما يحتل قرية أو مدينة كان يستخدم أقفالا إضافية للدكاكين كي لا تتعرض للسرقة. وعندما يأتي أصحاب العلاقة كان يسلمهم حقهم يدا بيد. لم تسرق حبة شوكلاتة واحدة وأنا شاهد على ذلك، وتلك حادثة أرويها لك: أخبرنا أحدهم وهو يدعى محمد علي حسان من المنطقة الوسطى، أنه اعتقل بتهمة التخابر مع صنعاء واقتيد إلى عدن، وظل دكانه مفتوحا ولم يسرق ولم تمسه يد حتى عاد إليه. كان الجيش الذي يأتي من صنعاء يتصرف بشكل معاكس تماما؛ فالحملات العسكرية الوافدة إلى المناطق الوسطى كانت تمارس النهب والقتل، وتستولي على كل شيء.

الموقف السوفييتي

الضغط السوفييتي لإيقاف الحرب لم يكن عارضا، كان جزءا من وجهة نظر شاملة للجنوب والمنطقة. كانت موسكو تعارض الوحدة بين الشمال والجنوب ومعها الأحزاب الشيوعية المعروفة. كانت ألمانيا الشرقية تتبنى المعارضة الأشد، إلى حد أنهم كانوا يعارضون تدريب الضباط من الشمال وإلحاقهم بجيش الجنوب، لكن صالح مصلح وعلي عنتر رفضا هذه السياسة، وكان عبدالفتاح إسماعيل يختلف مع الشيوعيين العرب والسوفييت جذريا حول الوحدة وتوحيد الحزب شمالا وجنوبا، ويقول؛ إن ذلك مقدمة ضرورية لتوحيد اليمن.

أوقف تقدم الجيش الجنوبي في الحرب خصوصا بعد تهديد سوريا والعراق بالتدخل، فضلا عن الموقف السوفييتي واقتناع عبد الفتاح بصورة خاصة بأن الحرب خاطئة وأنها ستسيء إلى علاقاتنا مع الروس، رغم أنه يريد توحيد اليمن. اجتمعنا حينذاك في القيادة السياسية والعسكرية وعرض الموقف تماما وقالوا إن الجيش يتقدم بسرعة في المناطق الشمالية وبدون خسائر تقريبا، ولكن الذخائر سوف تتوقف خلال أيام؛ لأن الاتحاد السوفييتي قرر قطع كل الدعم العسكري عن دولة الجنوب، وأنه من المحتمل أن يقع تدخل عربي لوقف الحرب. دار نقاش طويل واستطاع عبد الفتاح أن يقنع غالبية العسكريين والسياسيين بإيقاف الحرب.

كنا نحن (الشماليين) غير راضين عن هذا القرار، وكذلك صالح مصلح وعلي عنتر وآخرون. اختلفنا جميعا مع عبد الفتاح وشكل هذا الخلاف بداية لتطورات لاحقة. غضبنا منه، ولكن عندما تمت تنحيته لم نرحب بذلك، وقيل لنا إن الجو متأزم ومن الأفضل أن يستقيل. كنت بين من ذهب إليه للحصول على استقالته، وكان معي أنيس حسن يحيى. 

 

الضغط السوفييتي لإيقاف الحرب لم يكن عارضا، كان جزءا من وجهة نظر شاملة للجنوب والمنطقة. كانت موسكو تعارض الوحدة بين الشمال والجنوب ومعها الأحزاب الشيوعية المعروفة. كانت ألمانيا الشرقية تتبنى المعارضة الأشد، إلى حد أنهم كانوا يعارضون تدريب الضباط من الشمال وإلحاقهم بجيش الجنوب،

 



اجتمع المكتب السياسي بغياب عبد الفتاح، وقال علي عنتر وصالح مصلح وآخرون؛ إنهم لا يستطيعون بعد اليوم التعايش مع عبد الفتاح، وأنه رجل كسول ولا ينشط ويريدون استقالته. حصلت اتصالات من الاتحاد السوفييتي وطلب السفير الروسي في عدن حل الأمور بطريقة سلمية والإبقاء على فتاح، ولكن بعد تصاعد التوتر داخل القيادة، تمنى المكتب السياسي على عبد الفتاح أن يستقيل وكُلفنا أنيس حسين يحيى وأنا وعبد العزيز عبد الوريث بالذهاب إلى منزله في معاشيق (القصر الرئاسي)، وشرحنا له الموقف وطلبنا استقالته. قال: ما هي الأسباب؟ ذكرناها له، وعلى رأسها انعدام الثقة. قال؛ إن كانت هذه رغبة المكتب السياسي، فأنا استقيل وأهم شيء بالنسبة لي أن يبقى الحزب موحدا. ثم تناول القلم وكتب أمامنا استقالته، وعندما وصل إلى آخر الرسالة كان فضل محسن بجانبه. لم يتكلم، وأظن أنه انتزع الرسالة من عبد الفتاح وقطعها أو رماها، وقال له: لا يمكن أن تكتب حرفا واحدا بعد، ولا يمكن أن تستقيل. 
 
علمنا في تلك اللحظة، أن بعض قادة الجيش اتصلوا بفتاح وبينهم قائد سلاح الصواريخ قاسم عسكر وآخرون، وقالوا له: سنقف معك. لا تستقِل فقال: لا أريد أن تراق نقطة دم واحدة بسببي ومن أجل بقائي  في هذا المنصب. الحزب هو الأهم. ثم كتب استقالته ثانية، وأقنع فضل محسن بضرورتها. هنا تجلت عظمة عبد الفتاح. كان مثقفا وفيلسوفا وعالما مثاليا، ولكنه لم يكن ماهرا في المناورة والتكتيك وبما يناسب تلك الأوضاع. حملنا الاستقالة إلى المكتب السياسي ثم عرضت على اللجنة المركزية وصادفت مقاومة كبيرة، ولم تحصل على أغلبية إلا بصعوبة شديدة.

عبد الفتاح إسماعيل 
عبد الفتاح ثوري وحالم لا يجيد الكذب، وهو من القادة الرئيسيين الذين حولوا حركة القوميين العرب إلى الماركسية. قاد جبهة عدن الفدائية في المراحل الأولى قبل أن يتولاها سالمين ومقبل. لم يطلق النار في الصراع الداخلي. كانت طباعه السلمية تحمل الآخرين على إطلاق صفة "غاندي" عليه.

كانت نهايته مأساوية وحزينة في كانون الثاني/يناير 1986. تشكلت لجنة بعد مقتله وخلصت إلى أن جثته لم يعثر عليها أحد. ضمت اللجنة شخصيات لا يرقى إليها الشك وأعضاء من محبي عبدالفتاح، وكانوا يقفون إلى جانبه، ومنهم محمد سعيد عبدالله (محسن) وأمين ناشر. في التفاصيل أن المدرعة التي أقلته احترقت وكان فيها، ولا توجد رواية أخرى حقيقية يمكن الوثوق بها. أما القول بأن رفاقه وزملاءه اغتالوه ومنهم سعيد صالح أو علي البيض، فهو غير صحيح مئة بالمئة؛ لأن خروجهم من مكان الحصار كان كل وحده منفردا. عبدالفتاح خرج وحده بمدرعة وهؤلاء انقطعوا عنه. هذه رواية أحمد علي السلامي ويحيى الشامي اللذين كانا في الاجتماع خلال المجزرة. احترقت المدرعة ولم يبق منها سوى قطع صغيرة؛ لأن الذخيرة تفجرت بداخلها في أثناء احتراقها بعد تجاوزها للجسر. 

 

كانت نهاية عبد الفتاح إسماعيل مأساوية وحزينة في كانون الثاني/يناير 1986. تشكلت لجنة بعد مقتله وخلصت إلى أن جثته لم يعثر عليها أحد. ضمت اللجنة شخصيات لا يرقى إليها الشك وأعضاء من محبي عبدالفتاح وكانوا يقفون إلى جانبه، ومنهم محمد سعيد عبدالله (محسن) وأمين ناشر.

 



انتظرنا كي تكتمل تحقيقات اللجنة المكلفة بالقضية. في البداية كانت رغبتنا ألا يذاع الخبر كي لا يحتج الناس، لكن أيضا كان هناك رغبة ألا يذاع الخبر كي لا تهتز معنويات الطرف الذي سيطر على الوضع، أو الذي انتصر عند انتهاء التحقيقات، وختم تقرير المكتب السياسي. علم الإخوان في "الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين " أن التقرير جاهز وأذاعوا الخبر للأسف الشديد، وهذا أثار استياء المكتب السياسي؛ لأنه كان عليه أن يعلن الخبر وليس جهة أخرى.

أما علي البيض والآخرون، فكانوا معزولين في اللجنة المركزية ثم في وزارة الدفاع، وأصيب علي البيض بعد أن خرج في سيارة الإسعاف. أنا أوافق على هذه الراوية، إلا إذا ثبت العكس بدليل مادي آخر. لم تكن لدينا إمكانية لتحليل بقايا العظام بدليل مخبري، لكن محبسه "حق الزواج" كان في هذه البقايا. السوفييت لم يتدخلوا في هذا الموضوع.

 

اقرأ أيضا: القائد الاشتراكي اليمني الذي كان سيطلق سراح قاتله لو بقي حيا

 

اقرأ أيضا: جار الله عمر: عقلانية المعتزلة مهدت طريقي إلى الماركسية

 

اقرأ أيضا: جار الله عمر: هكذا تم إنقاذ الجمهورية في اليمن من السقوط

 

اقرأ أيضا: جار الله عمر: شاهدت قرار اغتيال الغشمي بأم العين

 

اقرأ أيضا: جار الله عمر: الإمام البدر فتح أبواب اليمن على العالم





 




التعليقات (0)