كتاب عربي 21

تونس.. رئيس خارج الزمن

محمد هنيد
1300x600
1300x600

كُنت قد كتبتُ من هذا المنبر مقالا عن رئيس تونس منذ سنة تقريبا ولم يكن المشهد يومها يسمح بتبيّن مشروع الرجل ولا ما أعدّه لعُهدته الرئاسية ولم نكن نعلم كثيرا عن حاشيته ومشاريعها وارتباطاتها. قليلون من تونس لم يساندوا ترشح الرجل وهو الذي عُرِف بلغته العربية الفصيحة ومساندته للثورة ورفضه للأحزاب جملة وتفصيلا الأمر الذي أكسبه إجماعا وشعبية جارفة أمام وعي شعبي جمعي يصدّق الشعارات ويثق بالمثقفين.

اليوم يكاد أغلب التونسيين يخجلون من الرجل الذي انتخبوه يوما ويعضون أصابع الندم على التصويت له في الأدوار الأولى للرئاسيات. فخلال أقل من سنة واحدة انكشف خواء الرجل واستحالت لغته العربية ركاكة تبعث على الغثيان وهو الذي ارتكب من الأخطاء التواصلية والسياسية ما يوجب الوقوف عنده قراءة وتفكيكا وتأويلا. أخطر ما في الأمر أنّ وراء الرجل مشروعا سياسيا خطيرا يهدف إلى نسف المُنجز الثوري بالعمل على إسقاط البرلمان وإعادة النظام الرئاسي والانتكاس بالثورة نحو مربع الاستبداد. 

المشاهد المؤسفة
 
كان مشهد رئيس الجمهورية وهو يسلّم كتابا خطيا إلى مدير التشريفات بالقصر ويوصيه بإيصاله إلى رئيس الحكومة والتأكد من التسلّم بعد التسليم حديث العام والخاص في تونس. بل تجاوز المشهد حدود تونس ليصير مثار تندّر مواقع التواصل العربية وعدد من المنابر الإعلامية التي رأت في المقطع تكلّفا غريبا وحركة اتصالية أغرب أساءت كثيرا لصورة الثورة وصورة الرئاسة

قبلها بأيام كان للرئيس موعد مع مشهد آخر مغرقٍ في السريالية وهي قصة الرسالة المسمومة التي أرسلت إلى القصر الجمهوري لاغتيال الرئيس ثم طُوِي الملف فجأة كأنّه لم يكن. صنع الرئيس وحاشيته أكذوبة كبيرة وهي قصّة الرسالة المفخخة التي أصابت مديرة الديوان بفقدان البصر وأغمي عليها ثم رأيناها حاضرة بعد ذلك بساعات في مجلس الأمن القومي. 

 

قدْ تُسجَّل شطحات الرئيس وعنترياته على الصدفة وعلى الأقدار التي سيمحوها الزمن حتما وتُكنس من الذاكرة الوطنية كما كُنست غيرها لكنّ الأخطر من ذلك هي المشاريع التي تتضمنها هذه الشطحات الرئاسية.

 



من المشاهد المثيرة التي ستبقى عالقة بتاريخ الرجل إنكاره الاحتلال الفرنسي لتونس وتسميته بالحماية في تنكّر رخيص لدماء الآلاف من الشهداء والمقاومين الذين قدموا أنفسهم وأرواحهم في سبيل تحرير وطنهم. كان الرئيس يظهر في أوضاع انحناء جسدي وتذلل أنكرها شعبه وهو الذي أصمّ الآذان بالسيادة الوطنية والعنتريات اللفظية الجوفاء.

لا يمكن حصر عدد المشاهد التي أصابت شعب تونس بخيبة أمل عميقة في رجل سوّقت له منصات عديدة على أنه نصير للثورة زاهد في السلطة وهو الذي بلغت ميزانية القصر في عهده مبلغا يفوق ميزانيات كل الرؤساء الذين سبقوه. اليوم يكون الرجل قد صفّى كامل رصيده الانتخابي وخسر كل من صوّت له في الرئاسيات بل صار أضحوكة وطنية ومناسبة للتندّر والسخرية. 

الخطر الأكبر
 
قدْ تُسجَّل شطحات الرئيس وعنترياته على الصدفة وعلى الأقدار التي سيمحوها الزمن حتما وتُكنس من الذاكرة الوطنية كما كُنست غيرها لكنّ الأخطر من ذلك هي المشاريع التي تتضمنها هذه الشطحات الرئاسية.
 
يُجاهر الرئيس منذ حملته الانتخابية بعدائه للأحزاب وهو الأمر الذي مكّنه من الفوز بعدد كبير من أصوات اليائسين من قدرة الأحزاب السياسية على تطوير خطابها والخروج من حالة التناحر والصراع. لكنه لم يتبادر لذهن أحد أنّ الرجل يستهدف المنظومة السياسية برمتها ويعمل على نسف المُنجز الثوري والعودة بالبلاد إلى مربّع الاستبداد على طريقة اللجان الثورية للطاغية الليبي. اليوم تظهر للعلن تنسيقيات "الشعب يريد" وهي عبارة عن مجاميع جهوية تهدف إلى إسناد الرئيس الذي لا يملك حزاما حزبيا باعتباره قادما من خارج الأحزاب في بناها التقليدية.
 
لا تكاد تمرّ مناسبة دون أن يُذكّر الرئيس بأنه وحده رئيس البلاد وأنه لا سلطة أعلى من سلطته وهو الذي يدّعي معرفته بالدستور الذي أقرّ للبلاد ثلاثة رؤساء وهم رئيس البرلمان ورئيس الحكومة ورئيس الجمهورية الذي لا يملك غير صلاحيات محدودة هي أساسا الدفاع والخارجية. عقدة السلطة لم تعُد تخفى على خطاب الرئيس أو على تصريحات أخيه الذي تحوّل ناطقا رسميا باسم الرئاسة بشكل يُذكّر بكابوس ما قبل الثورة.
 
رفع الرئيس شعار محاربة الفساد لكنّه لم يوقِف فاسدا واحدا بل عيّن رئيس حكومة أسقطه تورطه المفضوح في شبكة فساد مُثبتة. وها هو اليوم يُعطل تكوين حكومة اختار هو نفسه رئيسها لكنّه تحول إلى محاربته في حركة صبيانية عطّل بها دواليب الدولة بسبب رفض الرجل الخضوع له ولمستشاريه والتحوّل إلى بيدق في يد مديرة ديوان الرئيس.

 

تبلغ الأزمة في تونس اليوم أوجها وقد صار الرئيس محور الأزمة وسببها الأساسي سعيا منه إلى إسقاط البرلمان وترذيل الأحزاب بعد أن صار سجين القصر وسجين مستشاريه.

 



نجح الرئيس في تكوين حزام حزبي من المتعاطفين معه وهم أساسا حزب التيار الديمقراطي وفلول اليسار وحزب حركة الشعب من القوميين أنصار البراميل المتفجرة والانقلابات على الديمقراطية. لم يتحالف هؤلاء مع الرئيس لنزاهته أو لوضوح مشروعه السياسي الذي لا يملك منه شيئا بل تحالفوا معه نقمة في أعدائهم واستعادة لأحقاد إيديولوجية أكل عليها الدهر وشرب.
 
تبلغ الأزمة في تونس اليوم أوجها وقد صار الرئيس محور الأزمة وسببها الأساسي سعيا منه إلى إسقاط البرلمان وترذيل الأحزاب بعد أن صار سجين القصر وسجين مستشاريه. كان التونسيون ينتظرون من الرئيس التحرك على الجبهات الخارجية لجلب الاستثمارات والمساعدات والأموال المنهوبة في سبيل إنعاش اقتصاد يختنق لكنه آثر دفء القصر والعنتريات الفارغة والثرثرة الجوفاء ومحاربة طواحين الهواء.

هكذا أضاع الرجل على نفسه فرصة تاريخية وأضاع على البلاد وقتا ثمينا لكنّه قدّم من حيث لا يعلم درسا في الشعبوية التي ستحصّن شعب تونس ضدّ كل أنواع التحيّل والتزييف والوعود الفارغة. الثورة مسارات وتجاربُ وخيباتٌ لكنها في النهاية تراكمات وتجارب وخبرات ستجعل من تونس مخبرا عربيا لصناعة الانتقال الديمقراطي رغم كل المشعوذين والدجالين والمتحيلين.


التعليقات (1)
سامي بنعامر
الجمعة، 26-02-2021 07:05 ص
مقال رائع جدا قصف مركّز و ثابت وتشخيص لذاته و للوضع العام في البلاد مدقق .