قضايا وآراء

الموضوعية والحياد.. معايير جديدة في عالم متغير

عبد الله السعافين
1300x600
1300x600
في مرحلة يشهد فيها العالم زيادة هائلة في حدة الاستقطاب الاجتماعي والسياسي، من المتوقع أن تتعرض مفاهيم صحفية تقليدية مثل الموضوعية والحياد للمراجعة العميقة، مع توقعات بانطلاق مؤسسات إعلامية جديدة هذا العام تروج لمفاهيم حزبية وأيديولوجيات محددة. وفي الوقت الذي تزداد فيه الحاجة إلى مفاهيم الحيادية والموضوعية في ظروف الاستقطاب هذه، إلا أن هناك قضايا سياسية واجتماعية (كالعنصرية وتهديد حياة الصحفيين بسبب عملهم وتعمد الإضرار بالبيئة وخطاب الكراهية) من غير المنطقي أن يكون الصحفي فيها محايدا.

لقد نص إعلان المؤتمر العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة في دورته العشرين على أن مفاهيم "الحيادية" و"الموضوعية" ينبغي أن تعمل على تعزيز حقوق الإنسان، ومكافحة العنصرية والتحريض على الانتقام، وهذا يقتضي التدقيق في صحة ودقة المعلومات قبل نشرها. في الوقت ذلك ينبغي أن يلتزم الصحفيون بمقاربات إخبارية أكثر توازنا، وأن تقدم وسائل إعلام الجماهير إسهاما أساسيا في هذا المقام، بأن تعكس شتى جوانب الموضوع المعالج.

ورغم أن إعلان اليونسكو نص أيضا على وجوب "ضمان حصول الجمهور على المعلومات عن طريق تنوع مصادر ووسائل الإعلام المهيأة له، مما يتيح لكل فرد التأكد من صحة الوقائع وتكوين رأيه بصورة موضوعية في الأحداث"، وأنه لهذا الغرض يجب أن يتمتع الصحفيون بحرية الإعلام وأن تتوافر لديهم أكبر التسهيلات الممكنة للحصول على المعلومات، إلا أن احتدام النقاش حول رواج الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة في المواقع الإلكترونية وخاصة مواقع التواصل الاجتماعي (السوشيال ميديا)، قد دفع بعض السياسيين إلى انتهاز الفرصة لتشديد القيود على حرية التعبير، حيث كانت الحكومة الفرنسية سباقة في الإقدام على النيل من حرية التعبير مستغلة هذا الجدل حول صحة ما تحمله منصات التواصل من أخبار ومعلومات، وقامت بطرح قانون "الأمن الشامل"، والذي يعزز سلطات الشرطة في المراقبة ويجرّم أي صحفي أو وسيلة إعلام تقوم بنشر صور أفراد الشرطة أثناء قمعهم للاحتجاجات، إلى جانب قيود أخرى. واستمرارا لهذه السياسات المثيرة للجدل انتقد الرئيس ماكرون يوم 7 شباط/ فبراير 2021 بشدة ما قام به "تويتر" من حظر لصفحة الرئيس الأمريكي السابق.

إن من شأن هذا الوضع لو استمر أن يعقد أكثر مهمة الصحفيين بشكل عام، والاستقصائيين منهم على وجه التحديد، كون عملهم يتركز على كشف المستور والإضاءة على ممارسات أصحاب الثروة والنفوذ.

وقد تحدثت مصادر مقربة من الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، عن أنه بعد خسارته الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ناقش مع مستشاريه "الفعاليات الإعلامية المحتملة، وضمان ظهوره على الساحة، بما يبقيه في دائرة الضوء قبل محاولة محتملة للعودة للبيت الأبيض في 2024. وأوضحت تلك المصادر أن ترامب يفكر في إطلاق قناة تلفزيونية، أو شركة تواصل اجتماعي.

ونشرت صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" تقريرا، تناولت فيه فرص ترامب في مجال الإعلام، إذا قرر بالفعل الإقدام على هذه خطوة. وبحسب التقرير، فإن إطلاقه شبكة تلفزيونية تحمل اسم "ترامب" مرهون بقدرته على توفير المال اللازم لذلك. فإذا لم يتمكن من ذلك فإن مراقبين يتوقعون قيام شبكة "فوكس نيوز" ذات التوجه اليميني والتي يثق بها ترامب؛ بالاتفاق معه على أن يظهر على شاشتها حصريا، خصوصا أنه يحظى بجاذبية لدى مشاهدي شبكات القنوات الإخبارية بشكل خاص.

ومع استمرار شركات التكنولوجيا الكبرى في تضييق الخناق على المعلومات المضللة، فسوف تتزايد الادعاءات من الجمهوريين والمحافظين واليمينيين بأنهم يتعرضون للرقابة من قبل نخبة ليبرالية. ومن المرجح أن يكون أحد المستفيدين هو "بارلر" (Parler)، وهو تطبيق يشبه "تويتر" ويصف نفسه بأنه "شبكة الإعلام الاجتماعي الرئيسية لحرية التعبير في العالم"، ومواقع أخرى مثل "MeWe وRumble"، والتي رحبت على وجه التحديد بالمحافظين. ولكن في هذه الأوقات التي تشهد حدة في الاستقطاب السياسي والاجتماعي كما ذكرنا، ستجد هذه الشبكات صعوبة لتجنب مصير "غاب" (Gab)، الذي أصبح ملاذا للمتطرفين بمن فيهم النازيون الجدد والعنصريون البيض.

وبقدر ما تثيره هذه التطورات من مخاوف من تأثيرها على المعايير المهنية خاصة الحياد والموضوعية، إلا أنها في الوقت نفسه سوف ترفع وتيرة التحدي لدى الصحفيين في كل العالم لكي يعيدوا تعريف الموضوعية والحياد، بحيث لا يكونوا سلبيين في نقل المعلومات والأخبار والترويج لمفاهيم عنصرية انعزالية تلحق الضرر بالإنسان والبيئة على حد سواء.

ومن الأمثلة التي رأيناها بالفعل ما قام به مذيع "سي إن إن"، فإن جونز هو من ذرف الدموع فرحا بخسارة الرئيس السابق ترامب للانتخابات وفوز منافسه الرئيس الحالي جو بايدن، الأمر الذي أثار الكثير من التفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي، في حين قاطعت شبكات التلفزيون الأمريكية مؤتمرا صحفيا مباشرا كان الرئيس ترامب يكرر فيه مزاعم لا أساس لها حول تزوير الانتخابات. كما زادت عدد مشاهدات برنامج "CBS" الذي يقدمه المذيع الكوميدي ستيفن كولبيرت، والذي شرب فيه الشمبانيا على الهواء احتفالا بفوز بايدن؛ عن خمسة ملايين مشاهدة.

وفي المملكة المتحدة، قالت مذيعة "بي بي سي" إميلي مياتليس إن مستشار رئيس الوزراء، دومينيك كامينغز، قد كسر قواعد الإغلاق وجعل الناس العاديين "يشعرون وكأنهم حمقى"، الأمر الذي اعتبرته "بي بي سي" مخالفة من المذيعة لمبادئ "الحياد".

ومما يبعث على التفاؤل أيضا ما بدأنا نشهده من تدخل القائمين على المنصات الإعلامية للحد من المحتوى الذي يفتقر إلى المصداقية، خصوصا في ما يتعلق بحياة البشر. وما قام به "تويتر" من حجب لتغريدات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب التي تشكك في الانتخابات ثم حظره نهائيا بعد تحريضه مؤيدين له على اجتياح مبنى الكونغرس؛ هو أحدث الأمثلة على ذلك.

وفي إطار جهود مساعدة الصحفيين على إعادة تعريف الموضوعية، فقد بدأت عدة مؤسسات برصد مبالغ ضخمة لدعم المؤسسات الإعلامية التي تساهم في نشر الحقائق ومساعدة الجمهور على التمييز بين المعلومات الصحيحة والمغلوطة، والتفريق بين الحقائق والشائعات. وتبرز في هذا الإطار مبادرة جوجل للأخبار التي تقدم منحة للمؤسسات التي تساهم في مكافحة الأخبار الكاذبة حول مطاعيم كورونا، وهي مبادرة يؤمل أن تتوسع لتشمل كل الأخبار الكاذبة وأن تشارك فيها مؤسسات إعلامية أخرى مثل أبل وأمازون وغيرهما.
التعليقات (0)