قضايا وآراء

أمريكا والعالم بين جو "النّعسان" وترامب "الصّحيان"

علي عقلة عرسان
1300x600
1300x600

"جو النعسان"، هكذا قال ترامب عن بايدن في المناظرات الانتخابية لمرشحي الرئاسة الأمريكية، وكانت النتيجة أن أخرج جو "النعسان" ترامب "الصحيان" من سَكَراته الصّبيانية، ومن حلبة السباق إلى الرئاسة، ومن البيت الأبيض، فتخبط ترامب ولجأ إلى ملعب الغولف الخاص به في فرجينيا، فهاج ويتفاقم هياجه وربما يؤول أمره إلى حلبة صراع الثيران في أكبر ملاعب مدريد، لأنه أصبح بعد فشله المُدوي لا يكتفي بملاحقة اللاعبين في الحَلَبة بل يقتحم مقاعد المتفرّجين، ويلاحق الديمقراطيين، ومن لا يعجبه من الرؤساء السابقين وأعضاء مجلسي الكونغرس، وحكام الولايات والمدن الأمريكية التي لم يفز بها ويصف مسؤليها باللصوص والفاسدين، ويناطح وسائل الإعلام وكلَّ مَن لا يحكُم لصالحه من المحاكم والقضاة، ومَن لا يجاريه في هياجه الوحشي من وزرائه ومسؤولي إدارته وأجهزته وأعضاء من حزبه الجمهوري وصفهم بالجبناء.
 
وهياجه خليط وحشي من جنون العَظَمة، والعنصرية البغيضة، وإدمان العدوانية والبلطجة.. وهو في وضعه رئيساً ومتسابقاً على الرئاسة، يكذب ويستثمر في التهديد والإرهاب بجهل وعنجهية وغرور. ويبدو مما قيل عنه ومن آراء مَن تابعوا سياساته ومواقفه وسلوكه أنه الرئيس الأمريكي الذي لم يسئ رئيس مثله لنفسه وبلاده، ولبلدان وشعوب وهيئات دولية وقضايا عادلة.. فقد قدم نفسه بصورة عنصري أحمق، ومبتزٍّ نهاب، وعدواني أهوج، وجاهلٍ بعيدٍ عن المعرفة والحكمة وأصول الحكم.. 

وحوَّل علاقات بلاده مع كثير من بلدان العالم ومؤسساته الشرعية إلى علاقات متوترة، وأشاع في مجتمعه الفوضى والانقسامات، وجعل الولايات المتحدة الأمريكية دولة شاذة لا تحترم القانون الدولي والقانون الإنساني وقرارات مجلس الأمن والاتفاقيات والمعاهدات الدولية، ولا ما توقعه من اتفاقيات، وتجعل أصدقاءها تَبعاً، وتوظف قوتها السياسية والعسكرية والاقتصادية في خدمة الصهيونية والاحتلال والإرهاب، وعبئاً على العدل والحق والسلم والأمن.. وبذلك أفسد السياسة والدبلوماسية ومؤسسات الحكم والديمقراطية الأمريكية بغوغائيته واستعراضيته وأنانيته المَرَضيَّة وهمجيته، وقاد إدارته وتعامل مع المسؤولين فيها بنزوع عدواني انتقامي محكوم بسلوك عنصري غير أخلاقي ولا إنساني، وأصبح معروفاً بالمبتز و" مدمن عقوبات"، وصاحب مقولة" ادفع، فنحن نحميك.. ادفع.."، وخادم الصهيونية وكيان الإرهاب "إسرائيل"، حيث عماد سياسته في الوطن العربي والعالم الإسلامي خصوصاً:" إن لم تعترف بإسرائيل وتطبِّع علاقاتك معها وتتحالف معنا ومعها.. فأنت إرهابي، وسنعاقبك ونحاصرك ونمحقُك فنحن الأقوى.".؟!

واتسمت سنوات حكمه بمعاداة الحق، وتهديد الأمن، وتشويه القيم، وتخويف الآخرين، واضطهاد الأقليات والملونين، ومعاداة الإسلام والمسلمين، وابتزاز دول وحكام بوقاحة لم يسبقه إليها إلا معلموه الصهاينة وصنوه في الفساد والإفساد العنصرية بيبي نتنياهو.. وقد جسد الميكافيلية والغوغائية والقرصنة ونهج قُطَّاع الطرق عملياً، واستباح كل الوسائل والطرق والأدوات لبلوغ أخس الأهداف والغات، مموِّهاً شخصيته المَهزوزة بمكابرة وعناد.

لقد فعلت خيراً أكثريةُ الشعب الأمريكي التي نذرت نفسها للتخلص من ترامب وإدارته، وعلى رأسهم أعضاء في مجلس النواب.. لقد فعلَت خيْراً لها ولغيرها، فقد خلصت بلادها من عنصري فوضوي ديماغوجي، وخلصت العالم من جاهل أحمق يسيء استخدام قوة أكبر دولة في العالم ويشوه صورتها بنظر دول وشعوب. وقد تخلَّصنا، نحن العرب بالتخلص منه ومن أشخاص في إدارته، من كتلة شريرة معادية شكلت خطراً وجودياً على الكثير من بلداننا والكثيرين منا، ونهبت أموال وثروات بلدان عربية، وأضْرت العداوة فيما بيننا، وبيننا وبين مسلمين، ورفعت من باعَ واشترى بوطنه وشعبه وبقضايا أمته ومكنته من أن يخون ويستبد ويعتدي ويبقى فوق المساءلة وفوق الرقاب، محافظاً على نفسه وحكمه وسلطته ونفوذه وثروته ومكاسبه ومصالحه.

 

آن لنا أن ندرك، بعد الذي صار وجرى خلال السنوات العشر التي مضت، أننا جميعاً مستهدفون، فمنا مَن يُستهدف بالحرب والاحتلال والتدمير والتجويع والتشريد ونشر الفتنة والاستبداد وضيق النظر، ومنا مَن يستهدف بالأزمات والضائقات والحصار والتمزيق والفساد والإفساد، ومنَّا مَن يستهدف بنهب الأموال والثروات وخوض الحروب بالوكالة وتمويل صراعات القوى الكبرى والصهيانة

 


ستحدث ارتدادات من جراء الهَزَّة السياسية التي أحدثتها الانتخابات الأميركية الأخيرة وكان من نتائجها فوز بايدن وانتهاء عهد ترامب.. ومن ذلك أن يُفتح الطريق أمام نهاية نتنياهو وفرض التطبيع مع " إسرائيل" بالقوة، وتهميش أو إنهاء دور المطبِّعين والمرتبطين بتطبيع العلاقات مع كيان الإرهاب الصهيوني.. وقد ينتهي دور عرب موالين للعنصرية الصهيونية ـ الأمريكية وللنهابين الأمريكيين أو يضعفون وتفشل رهاناتهم ويخسرون خُسراناً مبيناً فوق ما خسروه من مليارات دفعوها طوعاً أو كرهاً لإدارة ترامب أو لسواها من الجهات، ويخسرون فوق ذلك احترام أمتهم لهم وهيبتهم وكرامتهم.. 

قد يحدث ذلك ليس لأن بايدين سيكون ضدهم وضد النهب المنظم للمال والثروة، بل لأنه قد لا يتبع خطا ترامب بحيث يقلل من قيمة نفسه وحزبه وإدارته وبلاده فيكون ويكونون" وزارة خارجية لكيان الإرهاب والعنصرية الصهيوني إسرائيل"، ومَن يشعل نار الفتن الدينية والمذهبية والعرقية في بلداننا لتبقى "إسرائيل" محتلة ومتوسعة ومهيمنة ومحرِّكة لدمى سياسية عربية وإسلامية من وراء الستار، وتخوض بنا صراعات وحروباً بالوكالة، ندفع تكاليفها دماً ومالاً وثروات ومستقبل أجيال من أبنائنا.. 

لقد وعد بايدن في خطاب الفوز بالرئاسة بتغيير يصحح ما خرّبه ترامب في الداخل والخارج، وبإعادة الاحترام للولايات المتحدة الأمريكية في المحافل الدولية، وأظهر اعتدالاً وفتح بوابات أمل إذ قال ".. نريد أن ننصر الخير، ونعيد لأمريكا روحها الخيرة.. نحن مشعل العالم والعالم يراقبنا وينتظرنا". ودعا إلى سياسة مغايرة لما كان، وإلى نبذ للعنصرية، واحترام الأقليات وحرية الاعتقاد والحق في التمايز..

لكن علينا أن نتذكر أن المجتمع الأمريكي منقسم، وأن أكثر من واحد وسبعين مليوناً من الأمريكيين صوتوا لترامب مما يعني دعم نهجه العنصري وعدوانيته وغوغائيته.. صحيح أن أكثر من ستة وسبعين مليوناً من الأمريكيين صوتوا لبايدين ـ والأرقام حسب تحديث للنتائج بتاريخ ١٠/١١/٢٠٢٠ ـ لكن الفرز السكاني يشير إلى أن أكثر البيض هم من مؤيدي ترامب ونهجه، وأنهم أصحاب مال ونفوذ، ولن يتخلوا عن التمييز العنصري والنزوع العدواني والنهج الاستعماري الجديد، وأن الأقليات والملونين والمعتدلين الذين ناصروا بايدين يعانون، ويستعدون في الوقت ذاته للدفاع عن أنفسهم ولمواجهة كل الاحتمالات التي قد يثيرها ترامب وملايينه من الناس وملياراته ومليارات أتباعه من الأثرياء في الداخل والخارج.. وهذا الانشقاق العميق الواسع في المجتمع وفي الأوساط السياسية الأمريكية قد لا يساعد على تغيير ذي قيمة يجعل للأخلاقي والإنساني والعادل دوراً ملحوظاً في السياسات والممارسات الأمريكية.. 

مِن المطلوب ومِن المؤمل أن تنتهي غوغائية وبلطجة سياسية شكلت جائحة في السياسة الدولية من جراء وصول شخص غير مؤهل لحكم مثل ترامب في بلد ذي قوة ونفوذ وهيمنة على سياسات واقتصاد ومصارف وتجارات وعلاقات في العالم أجمع، ومن المؤمل والمحتمل أيضاً أن تعود الولايات المتحدة الأمريكية دولة مسؤولة تحترم القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني والاتفقيات والمعاهدات والهيئات الدولية وقرارات مجلس الأمن الدولي والهيئة العامة للأمم المتحدة ومؤسساتها، وتلتزم بما توقع عليه من اتفاقيات، وتؤدي دوراً بناء في السياسة الدولية وفي حل الأزمات، واستتباب الأمن والسلم والاستقرار.. إذ لا يمكن إنكار دور دولة بحجمها وقوتها وقدراتها على التأثير الواسع في العالم والتمهيد لعهد من الاستقرار والازدهار أحوج ما يكون العالم إليهما مع وجود جائحة كورونا الفتاكة.

قد لا نتقوع، نحن العرب، شيئاً إيجابياً من جوزيف بايدن في البيت الأبيض لأن انحيازه للصهيونية العنصرية وكيان الإرهاب " إسرائيل" كان وما زال سافراً، وذلك معروف عنه لدى الصهاينة والمتابعين لمسيرته السياسية، ولأن الإدارات الأمريكية المتعاقبة أكدت وتؤكد لنا، دورة انتخابية بعد أخرى، تأييدها المطلق للصهاينة العنصريين في عدوانهم واحتلالهم واستيطانهم وممارساتهم النازية، وتحالفها الاستراتيجي معهم، ولأن معاداتها لقضايانا العربية العادلة، وعلى رأسها قضية فلسطين، وأصبحت من ثوابت تلك الإدارات ونهجاً مُتَّبَعاً درج عليه الكونغرس ومؤسسات الحكم وأجهزته والإعلام و" اللوبيات" ذات التأثير السياسي مثل " إيباك".. الأمر الذي يجعل من ذلك سياسة أمريكية مستمرة، رغم مجافاته للحق والعدل والحقيقة والقوانين والقرارات الدولية، وخروجه الفاضح على ما هو أخلاقي وإنساني. 

قد لا نتوقع ذلك لأن تجاربنا الكثيرة والطويلة مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة سلبية ومثيرة، وهي أكثر من مُرة ومدمِّرة للحق والسلم والعدل، وهذا يلزمنا بالحذر الشديد، ويقتضي منا أن نبحث عمَّا يخلصنا من العنصرية الأمريكية ـ الصهيونية والتابعين لهما بغباء وعَماء.. ولن يتأتى لنا ذلك إلا بمراجعة عربية ـ إسلامية جذرية وشجاعة تسفر عن تغيير جذري في الخيارات والعلاقات والأهداف والتوجهات، وعن نبذ تام للتبعية ولموالاة أعداء الأمة والدين / الإسلام، وتوجه واعٍ صادق ومسؤول نحو رأب الصدوع في علاقاتنا البينية "العربية العربية، والعربية الإسلامية، والإسلامية الإسلامية".. والبحث عمَّ يجمعنا ويوحد صفنا والتخلص مما ييفرقنا ويضعفنا ويمزقنا.. 

نحن بأمس الحاجة للسلم الأهلي، وللتعاون وتعزيز الثقة فيما بيننا، وللاتفاق على المبادئ والثبات عليها، وإعلاء شأن الانتماء للأمة العربية والتمسك بقيمها وحقوقها والدفاع عن هويتها ورموزها ومصالحها. إننا بأمس الحاجة للدفاع عن قضايانا المصيرية، وعن وحدة الأرض والشعب في كل بلد من بلداننا، وعن سيادتنا ومصالحنا ومصيرنا.. وعلينا أن نتبيّن أهدافنا الرئيسة ونتمسك بها ونعمل مجتمعين على تحقيقها، ولا بد لذلك من امتلاك الإرادة الحرة والقوة بأشكالها وعصريتها وتفوقها لحماية أنفسنا وتحقيق ما نتطلع إلى تحقيه.. 

إننا سنواجه وضعاً جديداً وعلاقات ومستجدات مع بايدن وإدارته، وقد يكون في ذلك السلب والإيجاب، لذا يتوجب علينا أن نواجه ذلك بروح جماعية وتوافق واتفاق، وأن نتعامل مع الأوضاع والمستجدات بوعي وحكمة وحنكة، لنحد من العدوانية والانحياز والإضرار بنا وبقضايان.. ولن يتسنى لنا ذلك ونحن في وضع الاحتراب والاقتتال " البيني" والتمزق وانعدام الثقة فيما بيننا وموالاة معظمنا لمعسكرات الأعداء ومَن في حكمهم فرقاء يظهرون لنا الصداقة ولا تهمهم إلا مصالحهم في حقيقة الأمر ونهاية المطاف. 

إننا إذا لم نوقف الحرب، ولم نشع السلم، ولم نجمع كلمة الأمة، ونضع حداً لمعاناة شعوبنا ونعيد المشرد منها إلى رحاب الوطن بأمن وأمان، ونتجاوز حالة العداء والانقسام فسنزيد أمورنا ضغثاً على إبَّالَة ونخسر وتخسر أجيالنا ونتخلف أكثر مما نحن متخلفين.. ومدخلنا إلى وضع سليم يزيدنا منعة وقوة يقتضي إنهاء الحرب والتناحر والتوزع على معسكرات الأقوياء ليكون لنا في وحدة موقفنا ورؤانا قوة، ومن أجل ذلك لا بمن التسامح والتصالح والبناء بروح الثقة والحرص على الأوطان والإنسان.. 

وقد آن لنا أن ندرك، بعد الذي صار وجرى خلال السنوات العشر التي مضت، أننا جميعاً مستهدفون، فمنا مَن يُستهدف بالحرب والاحتلال والتدمير والتجويع والتشريد ونشر الفتنة والاستبداد وضيق النظر، ومنا مَن يستهدف بالأزمات والضائقات والحصار والتمزيق والفساد والإفساد، ومنَّا مَن يستهدف بنهب الأموال والثروات وخوض الحروب بالوكالة وتمويل صراعات القوى الكبرى والصهيانة، ومنَّا.. ومنَّا.. ومنَّا.. وهذا هو الحال والحبل على الجرَّار.. فمن لا يرى هذا الوضع، ومن لا يريد أن يراه، ومَن يتظاهر بعدم الرؤية، ومن يسكت على ما يرى وما يسمع.. كل مسؤول وكل ينطبق عليه القول "من ثقب الإبرة أعمى"، فكيف والرؤية مثل رأد الضحى؟!


والله من وراء القصد.  

التعليقات (0)