قضايا وآراء

الانتخابات: الشر الكامن في فلسفة الأقل شرا!

مريم الدجاني
1300x600
1300x600

توجد قناعة عامة بأنه من الصعب مقاومة الإغواء مهما كان نوعه، وأنه لا أحد منا يمكن أن يوضع موضع ثقة أو حتى يُنتظر منه أن يكون محل ثقة حين يتهاوى كل شيء، وأن الإغواء والإكراه يعبّران عن الشيء نفسه، حيث نجد في كلمات النائب الجمهوري في مجلس الشيوخ الأمريكي جوزيف مكارثي الذي كان أول من تحدث عن هذه المغالطة: "حينما يصوب أحد بندقية نحوك ويقول لك: اقتل صديقك وإلا سأقتلك، فإنه يغويك، هذا كل ما في الأمر". وحينما يضع الإغواء حياة شخص ما على المحك، ويتحول إلى سبب قانوني في ارتكاب جريمة، فإنه لا يكون حتما مبررا أخلاقيا.

وهنا ثمة فكرتان مهمتان؛ الأولى: كيف أستطيع التمييز بين الحق والباطل، لو أن أغلب ما يحيط بي أو كله قد حكم في الموضوع مسبقا، فمن أنا لأحكم؟ والثانية: إلى أي حد نستطيع الحكم على الأحداث الماضية أو الطارئة التي لم نكن حاضرين فيها؟

إننا حين نستعمل طاقتنا على الحكم فإننا لا نحكم فيها بأثر رجعي، وذلك صحيح بالقدر نفسه بالنسبة إلى المؤرخ كما هو بالنسبة إلى الحاكم في أي قضية. وبما أن السؤال المتعلق بفعل الحكم من دون الحضور مصحوبا دائما بتهمة الغطرسة، فمن ذا الذي يعتبر في الحكم شيئا باطلا؟ فحتى القاضي الذي يحكم على رجل في قضية قتل، يمكنه أن يضيف في النهاية أن لولا فضل الله عليه لكان هو القاتل.

يوجد هناك خوف من الحكم على الآخرين، الذي يعود أصله إلى ما كتب في الإنجيل: "لا تدينوا كي لا تُدانوا"، وإذا كان بيتك من زجاج لا ترمي الناس بالحجارة. ولكن الخطير في عدم الرغبة في الحكم، تعزيز الشك في أنه لا أحد يكون فاعلا حرا، ومن ثم، فالشك في أن كل واحد منا مسؤول أو يُنتظر منه تقديم إجابة عما كان قد فعله.

فاللحظة التي تنشأ فيها المشاكل الأخلاقية، ولو بشكل عابر، يكون الذي تسبب في نشأتها في مواجهة هذا الغياب المريب للثقة بالنفس، ومن ثم للكبرياء، وكذلك مواجهة ذلك التواضع الكاذب الزائف الكامن في القول: من أنا لأدين غيري؟ وهذا يعني أننا جميعا سواء، متساوون في الشر، وأن الذين يحاولون - أو يزعمون أنهم يحاولون - البقاء بعيدا في منتصف الطريق، إما أن يكونوا ملائكة أو منافقين.

ومن ثم، فإن الاحتجاج الأكبر هو في اللحظة التي يوجه فيها أي شخص لوما مخصوصا لشخص بعينه، بدلا من توجيه اللوم للأفعال أو الأحداث في صلب التوجهات التاريخية. إن تبرئة الذين فعلوا شيئا، بتعميم اللوم والاتهام، وتحويل الجميع إلى مذنبين، يعني في نهاية الأمر ألا أحد مذنب. يكفي أن نضع شعبا كاملا مذنبا برمته. وهنا تظهر عدمية مفهوم الذنب الجماعي.

وإن أهم اعتبار هنا هو مدى عمق تجذر الخوف مما يجب أن يكون عليه إجراء الحكم، وذكر الأسماء ممن هم في مواقع السلطة والمنزلة الرفيعة، سواء كانوا أمواتا أو أحياء، حينما تُستدعى هذه المناورات الفكرية. فما الذي يستطيع أحد قوله بشأن أولئك الذين يرمون بكامل الإنسانية من النافذة، من أجل إنقاذ رجل واحد رفيع المستوى، وإنقاذه من أي تهم موجهة له أو يجب أن توجه له؟

لذا، تكون الحرارة اللازمة التي يشعر بها المرء حين يجلس للحكم مؤكدة لمدى ارتباك أغلبنا ونحن نواجه المشاكل الأخلاقية. لكن الرعب الأخرس من الحكم، والتجارب المؤلمة الظالمة يمكن لها أن تحول أغلب البشر إلى جبناء، ولكن هذا من المفترض لا يُنشئ أيه مشاكل أخلاقية. لم تحدث المشكلة الأخلاقية بموجب الخوف المؤسس على الرياء لأن هذا مفهوم ومبرر إنسانيا، وإنما بموجب تلك الرغبة عند البعض في ألا يفوتهم قطار التاريخ.

ما يزعج ليس سلوك الفاسدين، وإنما سلوك المتخاذلين الذين لم يفعلوا شيئا، بل كانوا مطأطئين رؤوسهم وغير قادرين على تقديم حكمهم الخاص، فخضعوا للإغواء. فما هي المسؤولية الشخصية في مقابل المسؤولية السياسية التي تتحملها كل حكومة إزاء الأفعال والإساءات التي قام بها سابقوها، وتتحملها كل أمة في الأعمال والإساءات السابقة؟ قال نابليون حينما استلم السلطة في فرنسا: "عليّ أن أتحمل المسؤولية في كل شيء قامت به فرنسا من القديس لويس إلى حدود لجنة السلامة العامة".

أما بالنسبة للأمة، فإن كل جيل بموجب كونه مولودا من أجل الامتداد التاريخي، هو مثقل بذنوب الآباء بالقدر الذي يكون فيه مستفيدا من إنجازات الأجداد. وكل من يضع على عاتقه المسؤولية السياسية، سيبلغ دائما اللحظة التي يقول فيها مع هاملت:

فقد الزمن تَمَفْصُلَه، يا لها من نكاية لعينة

أن أولد كي أعدّله!

أن نُصلح الزمن يعني أن نُجدد العالم، وهذا ما يمكننا فعله كوننا أتينا في هذا الوقت أو ذاك بصفتنا قادمين جددا إلى عالم كان هنالك من قبلنا، وسيستمر هنالك حينما نكون قد رحلنا، وعلينا أن نلقي بالنور على القادمين من بعدنا.

تتحدث حنا آرنت المنظّرة السياسية والباحثة اليهودية عن نظرية الدولاب، حين تصف نظاما سياسيا عن كيفية اشتغاله، وعن العلاقات بين فروع الحكومة، وكيفية اشتغال الآلات البيروقراطية الهائلة التي تملك قنوات القيادة جزءا منها، وكيف يرتبط المدنيون والأمن وقوات الجيش معا، حيث يكون جميع الأشخاص الذين يستعملهم النظام بمنزلة الدواليب والعجلات التي تحافظ على عمل الإدارة، وعلى كل دولاب - أي على كل شخص - أن يكون قابلا للتضحية به من دون تغيير النظام، وذلك الزعم خاص بكل البيروقراطيات، وكل الخدمات المدنية، وكل الوظائف بالمعنى الحقيقي.

وقد يكون السؤال عن المسؤولية الشخصية لأولئك الذين يشرفون على الشأن برمته هو شأن هامشي. ويصح هنا ما فعله المدافعون بحثا عن عذر لأنفسهم: لو لم أكن قد فعلت هذا الأمر فلا بد وأن شخصا آخر كان قد فعله، لنصل إلى أن محاكمة أي شخص في هذا النظام عبثية، لأنه سيكون ممثلا للنظام برمته، ومن ثم كبش فداء.

يعتبر تغيير المسؤوليات في كل نظام بيروقراطي أمرا روتينيا، وإذا ما تمنى أحدهم تعريف البيروقراطية بحسب مفردات العلم السياسي، أي من حيث شكل الحكم، فهي حكم المكاتب، في مقابل حكم البشر وحكم الرجل الواحد. فالبيروقراطية للأسف هي حكم لا أحد، ولربما لهذا تعد شكل الحكم الأقل بشرية والأكثر فظاعة. لكن كل هذه التعريفات لا قيمة لها في قاعة المحكمة؛ لأن جواب المتهم، أي متهم، سيكون: لست أنا، بل النظام هو من فعل ذلك، وأنا كنت فيه بمنزلة الدولاب. وحيث إن هذه الأنظمة تحول البشر إلى دواليب، فإنه حتى في حالة أن أصبح أحدهم في موضع المحاكمة، فإن هذا ليس سوى هروب آخر من حدود الإجراء القضائي، بينما لا يسمح الإجراء القضائي أو السؤال عن المسؤولية الشخصية في ظل الدكتاتورية بتحويل المسؤولية من الإنسان إلى النظام، لأنه لا يمكن ترك النظام برمته خارج الحسابات.

إن حجة "الأقل شرا" في تبريرها الأخلاقي، تؤدي دورا بارزا. فحينما تواجه شرّين، من واجبك أن تختار "الأقل شرا"؛ لأن أصحاب هذه الحجة سيتهمونك بعدم المسؤولية إن رفضت الاختيار بالكامل. ومن ينددون بالمغالطة الأخلاقية لهذه الحجة هم متهمون دائما بأخلاقية فاسدة. وهنا يبرز الفيلسوف كانط الذي كان معروفا بالصرامة الأخلاقوية، بأنه كان قد رفض بشكل قاطع كل التنازلات للشرور الدنيا، "فإن كانوا يطلبون منك التضحية برجل واحد من أجل الجماعة، فلا تسلمه لهم، وإذا سألوك أن تعطي امرأة كي تُغتصب من أجل مصلحة النساء، فلا تتركها تغتصب".


إن أولئك الذين يختارون الأقل شرا ينسون بشكل سريع جدا أنهم بصدد اختيار الشر. وإن تقنية الحكومات في هذه الآليات المصممة للبقاء على الفساد والظلم، أن تعمل على دفع الناس للقبول بالأقل شرا، ليصبح معتمدا بشكل واعٍ بغاية تأهيل الجميع على نطاق واسع كي يقبلوا بالشر، ليصبح قاعدةً عامة مقبولة ومتعارفا عليها بشكل يجعل لا أحد منهم يشعر بفظاعة اختياره للشر، بل يشعرون بالفخر بأنفسهم لأنهم لم يختاروا الأكثر شرا. ربما كان هؤلاء الذين اختاروا الأقل شرا قرروا أنه من الأفضل ألا يفعلوا شيئا، ليس لمعرفتهم بأن العالم سيتغير نحو الأفضل، وإنما ببساطة لأنه لا يمكنهم أن يتعايشوا مع أنفسهم إلا ضمن هذا الشرط. نستطيع أن نقول عنهم إنهم رفضوا القتل، لا لكونهم ما زالوا مؤمنين بأنه عليهم ألا يقتلوا، وإنما لكونهم ليسوا على استعداد للعيش مع قاتل (أي أنفسهم).

لكن هذا لا يبرر لغير المشاركين في الحياة العامة في ظل نظام فاسد؛ لأنهم رفضوا مساندة النظام عبر إخلاء أماكن المسؤولية تلك، من دون مقاومة أو تمرد فعليين. وهذا في الواقع واحد من أنواع الفعل والمقاومة السلمية مثل السلطة الكامنة في الطاعة المدنية. لكنهم هم المجرمون الجدد، الذين لم يرتكبوا جريمة قط بمبادرة شخصية. هؤلاء مسؤولون على الرغم من ذلك لأنه لا يوجد ما يسمى بالطاعة في المسائل السياسية والأخلاقية. فحين نلغي هذه العبارة المفسدة (الطاعة القانونية) من قاموسنا سنستطيع أن نستعيد بعض مقاييس الثقة في النفس وحتى بعض الكبرياء، فيما كان يسمى كرامة أو شرفا للإنسان.

التعليقات (0)