مقالات مختارة

فرنسا بين العلمانية والدين

أحمد القديدي
1300x600
1300x600

في الحقيقة لم يبتدع الرئيس ماكرون تلك الجدلية القديمة بل الأبدية التي انفردت بها فرنسا، والمتمثلة في صراع قديم ودموي ومرير بين سلطة الملك وسلطة الكنيسة، وهو صراع ورثته فرنسا عن الإمبراطورية الرومانية منذ اعتنق قيصر الروم (قسطنطين) الديانة المسيحية عام 312م، ولقب نفسه بسيف السيد المسيح، ويعرف المؤرخون كيف اضطهد هذا القيصر شعبه، لإدخاله بالحديد والنار إلى دين عيسى عليه السلام، ومر التاريخ قرونا إلى أن وصلت أوروبا إلى عام 778م، حين أعلن البابا (سيلفاستر) قيام ما سماه (مملكة المسيح) التي تجب ما قبلها، وسعى إمبراطور فرنسا (شارلوماني) بعده إلى لبس الكسوة البابوية، وكان ذلك في عهد هارون الرشيد الذي توسع في مرحلة خلافته العالم الإسلامي فنشأت في عهدهما "ثنائية قطبية" بلغة عصرنا، لتكون الخلافة الإسلامية العباسية مقابل المملكة المسيحية الشارلومانية قوتين عظيمتين لا منازع لهما، وترتكزان معا على سلطة الديانتين وعلى مملكتين على رأسهما تاجان مرصعان بالأحجار الكريمة أو بالعمامة العباسية، يمثل الأول الفرنسي كل الأمة المسيحية ويمثل الثاني كل الأمة الإسلامية (العصر العباسي)، ويذكر التاريخ أن إمبراطور فرنسا ونصف أوروبا (شارلوماني) كان معجبا بالتقدم العلمي والفكري للدولة العباسية، من ذلك أن هارون الرشيد أهدى إلى نظيره الفرنسي أول ساعة من صنع الحرفيين البغداديين، فاعتقد بلاط الإمبراطور حين سمعت الحاشية دقاتها أن خليفة المسلمين أهداهم آلة مسحورة!.


وتمر القرون إلى سنة 1095م حين أصيبت الزراعات الأوروبية بأمراض نباتية قاتلة للمحصول، فحدثت مجاعات وتأزمت الدول الأوروبية، بسبب هيجان الشعوب وإعلان عصيانها، فما كان من فرنسا إلا أن تفكر في حل هذه المعضلات بإرسال جيوش من "المتطوعين" إلى بيت المقدس، بدعوى "تخليص أكفان السيد المسيح من أيادي الكفار"، والكفار كانوا هم المسلمين المسيطرين على الشرق الأوسط ودرة التاج الروحي للأديان السماوية الثلاثة (بيت المقدس).


وخطب البابا الفرنسي (يوربان الثاني) في جموع المسيحيين في كاتدرائية (كليرمون فيران) داعيا الأوروبيين إلى (الجهاد أي الحرب المقدسة)، حيث بدأت الحملات الصليبية بتخريب القدس (1099) واحتلال ممالك إسلامية كانت مقسمة بين العرب والسلاجقة، ولم تنته الحملات الصليبية الثمانية إلا عام 1271 مع مصرع ملك فرنسا في قرطاج بتونس، وهو لويس التاسع الملقب بالقديس لويس!.


ثم جاءت الحملات الاستعمارية لتكون الصدمة الثانية الأخطر بين الإسلام والنصارى، وكانت المذابح الفظيعة التي ارتكبت ضد المسلمين وهي معروفة، حيث استمرت إلى تحرير الجزائر والمغرب العربي عام 1962! ولعل آخرها أعوام 57 وما بعدها، حين أرادت الحكومة الفرنسية تجريب قنبلتها الذرية ففجرتها في الصحراء الجزائرية، مع جلب 48 مواطنا جزائريا مسلما، ربطهم الجيش الاستعماري على أعمدة قريبا من موقع التفجير كفئران المخابر، من أجل تحليل انعكاس الأشعة النووية على الإنسان، وهذا لديهم لا يسمى إرهابا بل تجربة "علمية"!.


نعود إلى فرنسا التي حسمت ملف الصراع بين الكنيسة والسياسة عام 1905 بسن قانون الفصل بين الديني والدنيوي، الذي كان وراءه (جول فيري شخصية سياسية متحمسة للاستعمار)، لكن فرنسا ومعها المسلمون ظلوا يحتفظون في الذاكرة الجمعية بالتصادم الحضاري والديني والسياسي بين الغرب والإسلام، ولم تمح من الذاكرتين تواريخ الحملات الصليبية ولا المظالم الاستعمارية، ولا أيضا الحضور العسكري الراهن للقوات الفرنسية في عديد البلدان الأفريقية، ولا مساندة الحكومات الفرنسية للديكتاتوريات العربية طيلة العقود الأخيرة، فجاءت أحداث الرسوم الكاريكاتورية لتحرك اللهب الكامن تحت الرماد، وفوجئت حكومة الرئيس ماكرون بتعاقب العمليات الإرهابية المدانة من قبل كل المسلمين، لأن الإسلام هو الديانة الثانية في فرنسا بعد الكاثوليكية، ويعيش في فرنسا حوالي 6 ملايين مسلم ويتعرض كثير من شبابهم إلى ميز عنصري من طرف متعصبين يمينيين، بسبب أسمائهم أو لون بشرتهم، مع أنهم فرنسيون كغيرهم، مما خلق مناخا من التوتر الاجتماعي غير المسبوق ترافقه تسابقات سياسوية غير شريفة نحو جلب أصوات اليمين المتطرف، وأصيبت الطبقة السياسية برهاب من المسلمين تبرره جرائم قلة من الشباب الجاهل المغسولة عقولهم، والمسلمون براء من جرائمهم.


الرئيس ماكرون في حديثه على قناة الجزيرة حاول تبرير موقفه، وشرح عقيدة العلمانية الفرنسية، إلا أن كثيرا من أصوات النخبة الفرنسية ورجال الكنيسة نددت بالإساءة للأديان باسم حرية التعبير! لأن هذا الخلط يشيع مناخ أزمة خطيرة، وقطيعة إنسانية بين أفراد الشعب الفرنسي الواحد.

 

(الشرق القطرية)

0
التعليقات (0)