قضايا وآراء

مراجعات تاريخيَّة

عبد الرحمن أبو ذكري
1300x600
1300x600

ثمة "إجماع" ساذِج بين الإسلاميين المتحزِّبين، يُشبه "الإجماع" الهزلي على "سلفيَّة" محمود شاكر؛ على أن سيد قُطب قد "اعتذر" عن آرائه النقدية في حق بعض شخوص التاريخ الإسلامي (خصوصا معاوية بن أبي سفيان)، وهي اﻵراء التي صدرت عنه في مراحل تَسبِق الكتب الأربعة التي تُشير لها الرواية المشهورة عنه(1)، وخصوصا في الطبعات القديمة لكتابه "العدالة الاجتماعية في الإسلام". وهم يزيدون على ذلك بخطاب أيديولوجي سطحي، هو مجرد مقلوب سفيه للخطاب العلماني؛ بأن سيد تغير كليّا حين تحول إلى "الاتجاه الإسلامي"، وكأنه نزل من السماء ساعتها!

هذا "الإجماع" نتيجة عوامل عديدة منها الجهل باللغة، وخصوصا لغة سيد رحمه الله؛ ناهيك عن كونه جهل بتفاصيل وبنية النسق الذي طوَّره تدريجيّا وتبنَّاه حتى استشهاده، ومراحل تطور هذا النسق خلال حياته؛ إضافة إلى الجهل بالتاريخ الإسلامي نفسه، ومحاولة إضفاء العصمة على أفراده(2). ومن ثم، فهم لا يُدركون أن تغيُّر بعض مكونات النسق الفكري، أو وجهته، إن شئنا الدقة؛ لا تقتضي تغيُّر كل محتواه ما لم يُصرِّح صاحبه بذلك تفصيلا، وهو ما لم يفعله سيد قطب.

ومن ثم، طوى ما يفعله الإسلاميون جهلا شنيعا بالإنسان وبالإسلام. واعتبارهم التديُّن حالة صفريَّة طهوريَّة خارج التاريخ. إن هؤلاء لا يختلفون في شيء عن خصومهم الشيعة، المؤمنين بعصمة الأئمة؛ فهم يُؤمنون (غالبا بغير وعي) بعصمة "المؤمن"، وليس الصحابي فحسب؛ ومن ثم فلا يجوز عليه الخطأ ولا السقوط البشري، وكأن معرفة الجاهليَّة ليست طريقا للإسلام. وكأن المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم لم يُصرِّح بأن "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام.. إذا فقهوا"(3)؛ أي إذا تعلموا الدين.

وكأن الفاروق عمر رضي الله عنه لم يقل إن من لم يعرف الجاهلية لم يعرف الإسلام، وكأن وصف حضرة النبي لأبي ذر، بأن فيه جاهلية؛ ليس كافيا ليعلمهم أن "المؤمن" ليس ملاكا، بل بشر يخطئ ويجهل ويخلط الحق بالباطل، والجاهلية بالإسلام! وإلا فلم أُرسِلَت الرسل وأنزل الوحي، ما دام المؤمن ملاكا لا يخطئ؟! إنه مجرَّد مقلوب ساذج للمنطق العلماني والإلحادي، الذي يؤمن بـ"الخطيئة الأصلية"؛ وأن الإنسان كومة لحم نجس مهما فعل!!

* * *

وتفصيل ذلك أن قُطب رحمه الله لم "يعتذر" عن آرائه، وإنما قال عرضا، حين سئل أن كتاباته قبل ذلك تُمثِّل بعض مراحل تطوره الفكري، ولا تمثل "رأيه النهائي". ومن ثم، كان الكلام عن "اعتذاره" غير دقيق، بل فيه ليٌّ أيديولوجي لأعناق الكلام. وهو أحد صور توظيف فكر الرجل لخدمة أغراض الإسلاميين المتحزِّبين، ومُعارِضيهم بالوقت نفسه!

لقد أخطأ معاوية في حق الأمة، وسن فيها سُنَّة المُلك الوراثي الشنيعة، لكن هل يُعطينا تجريم فعله وتقبيح مذهبه؛ حق الحكم على إيمانه كما يفعل بعض الشيعة؟ أم يدفعنا الحرص على ثوب إيمانه، الذي لا نملك له نزعا؛ إلى أقصى الطرف اﻵخر من طيف الغلو، بتبرير أخطائه وتسويغها وتأصيلها، كما يفعل بعض "النواصب" وعبيد السلاطين؟!

والناظِر المتأمِّل يجد أن الإشكاليَّة، حقيقة الأمر؛ ليست في سيد قطب، بل في من يظنون أن التاريخ هو الوحي، ويتوهمون أن معاوية استمرار ما للخلفاء الراشدين لمجرَّد ثبوت صُحبته، أو للتشابه الظاهري في بعض الأفعال. لكنَّ ما فعله معاوية لا علاقة له بخيار الصحابة في السقيفة، وضع تحت "خيار" ألف خط؛ كما أن فعل معاوية ليس من جنس فعل الشيعة، فهما ينتميان لنسقين مختلفين من الفكر، وإن كانت نتيجتهما واحدة؛ تعطيل الإسلام في المجال السياسي، تارة بتدنيس الشيعة للتاريخ وتارة بتقديس السنة له. وهو ما تجاوزه الشيعة نسبيّا، على المستوى النظري؛ ولم يتجاوزه السنة حتى اﻵن للأسف.

كذا، فإن فعل الشيخين ليس من جنس ما أكره معاوية عليه الأمة، بل لا مجال للمقارنة أصلا. إذ لكل من الراشدين لحظته التاريخية، التي كانت فريدة متفردة بذاتها؛ لكنها في نفس الوقت اجتهاد يعكس تشرُّبا عميقا للإسلام وانطباعا بالصُحبة الشريفة لحضرة المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم. وكون الصديق قد عَهِدَ لعمر بالخلافة من بعده، فهذا لا يعني أن فعله من جنس فعل معاوية؛ الذي أكره الناس على بيعة يزيد. فإن الذي يَزِنُ إيمانه الأمة لو علم أن في الأمة رجلا خيرا من عمر؛ لعهد له بلا تردد. أما معاوية فقد أكره الناس على يزيد، وهو موقِنٌ أن في الأمة من هو خير منه ومن أبيه وجده، كما واجهه بذلك عبد الرحمن بن أبي بكر، رضي الله عنهما. هذا الملمح نفسه يجعل اختلاف مقصد الفعل ومنطلقه ونتيجته واضحا ولو تشابه ظاهريّا. ثم جاء عمر فجعلها في دائرة أوسع، واستُشهِدَ عثمان مظلوما مخلوعا، وولي علي فاستُشهِد، وقد رفض أن يجعلها في عَقبِه.

ذلك أن الخلافة الراشدة، في نظري؛ لم يُقصَد بها تقنين نموذج سياسي طوباوي تسير عليه الأمة في سلام فردوسي أبدي لا ينتهي، بل أذهب إلى أن الشارع سبحانه وتعالى قصد إلى جعلها مدرسة تتعلَّم منها وفيها الأمة معنى الاجتهاد، بعد توقُّف الوحي وانتقال الموحى إليه إلى جوار ربه. فهذه التنويعات الضخمة، التي انتهت في جيل واحد؛ لا يمكن أن تكون فردوسا أرضيّا نهائيّا أبديّا، وهو ما كان واضحا في إدراك وفعل الراشدين، ويمكن من خلاله تجريد مقاصدهم ومدى وعيهم.

أما فعل معاوية فقد قصد منه، وربما بغير وعيٍ؛ غلق النسق الاجتهادي وجعلها في عقبه. إنه وإن كان الفعل واحدا، في العهد إلى شخص بعينه؛ إلا أن مقصِد الفعل يمكن بسهولة تتبُّعه وإدراكه من خلال السياق العام ونمط شخصيتي الصديق ومعاوية. وجليٌّ أن الصديق أراد حفظ النسق الاجتهادي مفتوحا إلى حين، بقوة عمر رضي الله عنهما، في حين أرادها معاوية كسروية؛ كلما مات كسرى تلقَّفها منه آخر. قد يتشابه الفعل، لكن المقصد والمنطلق والمآل يختلف حتما.

وحين كُسِرَ الباب باستشهاد الفاروق، بعد أن وضعها في رقبة جماعة؛ فإنه قد علم أنهم أحفظ الناس لمجال الاجتهاد. لكنَّ مقتل عثمان، ومن بعده علي؛ كان مؤذنا بقرب انغلاق النسق الاجتهادي في المجال السياسي، لتركد الأمة سياسيّا بالتسنُّن الأموي، الذي كرس الجبر والإرجاء، وأدى لظهور التشيُّع بفرقه المشهورة؛ التي ظلَّت تنقسِمُ على نفسها إلى نهاية القرن الرابع ومطلع القرن الخامس الهجري، قبل أن تتآكل أكثرها إلا من ذكرها في كتب الفرق.

خلاصة القول أن الحكم على الأفعال يحتاج إلى إدراك للنسق العام، وللسياق التاريخي، ولنمط الشخصية؛ فقد يتصدَّق أخوان توأمان، وأحدهما يرجو وجه الله والآخر يرجو الشهرة والذكر. وقد اجتهد أبو بكر بنيَّة واضحة، وهو على فراش الموت؛ وليست له أي مصلحة ظاهرة في استخلاف عُمر. أما معاوية، فحتى إن جاز اعتبار فعله اجتهادا؛ فإنه اجتهاد ظاهر الشبهة محتوم الفساد، ومؤذن بانحراف أكبر. وما ذلك كله ذلك إلا لحفظ ما استحوذ عليه؛ إذ خرح على الإمام علي عليه السلام!

__________

الهوامش:

 

(1) هي: "في ظلال القرآن"، و"معالم في الطريق"، و"الإسلام ومشكلات الحضارة"، و"خصائص التصور الإسلامي ومقوماته"، وكذا كتاب المقومات الذي نشر بعد استشهاده؛ بوصفها تُجسِّدُ الصورة الأخيرة لتطوره الفكري. وما قبلها مجرَّد مراحل قد "يُستغنى عنها" لأنها لم تعد تمثل الصورة "الأخيرة" لتطور فكره.

(2) هي آفة وبدعة سنَّها مُحب الدين الخطيب، وبعض من حذا حذوه؛ وقد فصَّلنا أمرها في مواطِن أخرى.

(3) متفق عليه، من حديثٍ طويل عن أبي هريرة؛ قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي الناس أكرم؟ قال: "أكرمهم عند الله أتقاهم". قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: "فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله". قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: "فعن معادن العرب تسألوني؟"؛ قالوا: نعم، فقال: "فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام، إذا فقهوا".

التعليقات (1)
قارئ نهم لمقالاتك
الأحد، 17-01-2021 06:11 ص
الإشكالية لدى الإسلاميين بأغلب توجهاتهم هو تكبير وتعظيم أهمية "كرسي الحكم" والنظر إليه بمنظار مكبر، والناظر في التراث السني يرى أن أهل السنة نظروا إلى الأمر بواقعية، فالنموذج الراشدي نموذج مثالي لا يتكرر إلا في فلتات من الزمن وهو مع هذا محصور في الفترة العمرية (11 سنة) وست سنوات من خلافة عثمان شهدت بعدها الأمة حربا أهلية انتهت في مجملها ببتنازل الحسن بن علي لمعاوية رضي الله عن الجميع أما خلافة أبي بكر (سنتان ونصف) فجلها كانت في حروب الردة. والحق أن كرسي الحكم رأت الأمة (أعني أهل السنة) أن المطلوب منه حفظ البيضة، وتركت نزاع السلطة والحكم، وحفظوا على الأمة دينها عن طريق التعليم والأوقاف واستقلالها وجماعات التربية (الصوفية). وقد ظل المجتمع رافدا للحكم بإمداده بأهل القوة والأمانة على فترات، كعمر بن عبد العزيز، والسلاجقة ونور الدين وصلاح الدين ثم العثمانيون، ولا تعدم أن تجد في بلاط الخلافة أو كرسي السلطنة أو الإمارات هنا وهناك عبر التاريخ من أهل الدين والتقوى والنظر إلى النموذج الراشد... تحياتي