قضايا وآراء

ماهيّةُ الحاكم ومصدرُ شرعيّته في بيان الحكم لأوّل دولة راشدة

محمد خير موسى
1300x600
1300x600
بعد أن استلم أبو بكر رضي الله عنه الخلافة كانت أمامه مهمّة كبيرة؛ تتمثّل في وضع النّاس أمام منهجِه في حكم الدّولة التي تعصفُ بها أزمةُ وفاة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وانقطاع الوحي.

في دولةٍ فقدت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الذي يغطّي صلاحيات مؤسسات الحكم والقضاء والفتوى والتبليغ؛ لا يكون الأمر عاديّا أن يقف الصّدّيق على المنبر ليعلن منهجه في الحكم عقب البيعةِ، وقبل أن يدفن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

وقف أبو بكر رضي الله عنه على المنبر ليعلن محدّدات المرحلة القادمة في الدّولة ومنهجه في الحكم في خطبةٍ موجزةٍ، غير أنّها ترسم ملامح نظام الحكم الرّاشد في عهده.

وبعد أن حمد الله وأثنى عليه قال رضي الله عنه:

"أيها الناس: إنّي قد وُلِّيت عليكم ولست بخيركم. فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني. الصدقُ أمانة والكذب خيانة، الضّعيف فيكم القويّ عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم الضّعيف عندي حتى آخذ منه الحق إن شاء الله. لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذلّ، ولا ظهرت الفاحشة في قوم إلّا عمَّهم الله بالبلاء. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم".

استهلّ الصدّيق كلمته بأهمّ قضيّة في الدّولة، وهي ماهيّة الحاكم، ومصدر مشروعيّة الحكم، وقد جلّى أبو بكرٍ رضي الله عنه هذا المعنى على النّحو الآتي.

الحاكم للأمّة كلّها وليس لأتباعِ دينٍ أو جماعة

افتتح الصدّيق أبو بكر رضي الله عنه خطابه بقوله: "أيّها النّاس" ولم يقل "أيّها المسلمون" أو "أيّها المؤمنون"، كما هو المعتاد في الخطاب المخصص للمسلمين.

وفي ندائه للنّاس جميعا في تلك الدّولة التي يوجد فيها مسلمون وغير مسلمين؛ يرسل رسالة واضحة بأنّه رئيس وحاكمٌ لكلّ أفراد هذه الدّولة، وليس حاكما محسوبا على جماعةٍ فيها، ولو كانت هذه الجماعة هي الأكثريّة المطلقة.

فالحاكم وإن كان ينتمي لجماعة أو تنظيم أو حزب أو دين؛ فإنّه حين استلامه للحكم ينبغي أن يقف على مسافةٍ واحدةٍ من جميع من يحكمهم، ويعمل على أن يكون تعامله متساويا مع كلّ من هم تحت حكمه، على اختلاف توجّهاتهم وجماعاتهم وأديانهم وموقفهم منه.

الأمّة هي صاحبة الحقّ والسّلطة في الولاية والعزل

وهنا يُبدع الصدّيق أبو بكرٍ رضي الله عنه حين يقول: "لقد وُلِّيت عليكم". فهو يبيّن بوضوح وجلاء بأنّه لم يستولِ على الحكم استيلاء، ولم يأخذه بانقلابٍ على إرادة الشّعب، ولم يرثه عن أبيه، ولم يولّ نفسه عليهم رغم أنوفهم، وإنّما تمّت توليته منهم هم.

فالشّعب أو الأمّة هي وحدها صاحبة الحقّ في تولية الحاكم، وهو يستمدّ شرعيّة حكمه وصلاحية وجوده واستمراره منها.

وقوله "وُلّيت عليكم" أي ولّاني سواي وهو أنتم، ولقد جعل الصّيغة مبنيّة للمجهول لما في ذلك تفخيم وتعظيم الجهة القائمة بالتّولية، أي أنّه يعظّم شأن الأمّة والشّعب في ذلك.

وبما أنَّ الأمّة هي صاحبة الحقّ في تولية الحاكم فإنّ ذلك يقتضي أن تكون هي صاحبة الحقّ في عزله، وينبغي أن يبقى الحاكم على شعور دائمٍ بأنّ استمراره وبقاءه في سدّة الحكم مرهون بإرادة الجهة صاحبة الشرعيّة، وهي الأمّة والشّعب.

الكفاءة في الحكم لا الخيريّة في السّلوك

يقرّر الصدّيقُ أبو بكرٍ رضي الله عنه قواعد مهمّة في اختيار الحاكم وتعامله مع نفسه وتعامل المحكوم معه؛ منبثقة من المقاربة بين الكفاءة والخيريّة، فيقول: "وُلّيت عليكم ولستُ بخيركم".

وهنا يقرّر الصّدّيق قواعد أهمّها:

1- الأصل في اختيار الحاكم هو الكفاءة؛ فلو اجتمع شخصان من أهل الخيريّة لكنَّ أحدهما خيرٌ وأفضلُ في سلوكه والآخر أكفأ في عمله؛ فالأصل أن يتمّ اختيارُ الأكفأ.

2- اختيار أحدٍ للحكم أو لأيّ منصبٍ لا يدلّ على أنّه خيرٌ من الآخرين؛ فالخيريّة ينالها الإنسان بسلوكه وأعماله.

فقوله "ولست بخيركم" ليس مجرّد تواضع، بل تقريرٌ وتأكيدٌ على أنّ ثبوت الولاية واعتلاء سدّة الحكم والقيادة لا يقتضي ثبوت الخيريّة على الآخرين.

3- على الشّعب أن يتعامل مع الحاكم تقييما وتقويما من منطلق كفاءته العمليّة لا خيريّته الذّاتيّة، فيحكم على أعماله المتعلّقة بالحكم. ولا تكون خيريّته في السلوك وعباداته وغير ذلك سببا في غضّ الطّرف عن تقصيره أو أخطائه، أو غياب كفاءته في قضايا الحكم.

فلو كان الحاكم صالحا في نفسه يقومُ اللّيل ويواظب على الصّلوات في المساجد ويتلو القرآن الكريم، ولكنّه كان فاشلا في الحكم، فاشلا في إدارة شؤون العباد والبلاد، فإنّ تديّنَه الشّخصيّ لا يغني شيئا مع فقدان كفاءته.

وهكذا جاءت براعةُ استهلال الصدّيق رضي الله عنه، واستفتاحُه بيانَ الحكم بتحديد ماهيّة الحاكم ومصدر مشروعيّة حكمه؛ بوصفها الأرضيّة التّأسيسيّة لبقيّة محدّدات الحكم الرّاشد التي جلّاها رضي الله عنه في خطبته الجامعة وبيانه السّياسيّ الأوّل.

twitter.com/muhammadkhm
التعليقات (1)
عزام فرا
السبت، 05-09-2020 05:16 م
أن البيان الذي ألقاه سيدنا ابي بكر يشتمل على مبادئ دستورية لإنتاج السلطة وكيفية ممارستها والية تداولها ولكن هذه المبادئ لم تترجم إلى منظومة قانونية ودستورية مكتوبة لذلك بقيت الدولة الراشدة الناشئة في مهب الريح فالمقدرات الاستثنائية التي يمتلكها سيدنا عمر هي التي سدت الفراغ الموجود في هيكلية الدولة اي غياب البنية الدستورية حيث اخرت من انهيار الدولة ولكن بمجئ سيدنا عثمان بدأت عوامل الانهيار بالظهور حيث تجلت إشكالية محاسبة الحاكم في عهده و آلية عزله فغياب المرجعية القانونية فتح الباب للاجتهاد الشخصي في تلك القضية فسيدنا عثمان كان يرى أن الحاكم يمتلك حصانة من العزل ومن المحاسبة في ممارسة السلطة أما محمد ابن ابو بكر فقد اجتهد أن من حق الأمة تنفيذ حكم الاعدام بالحاكم الذي يرفض الاستجابة لمطالب الأمة بالعزل والمحاسبة وأعتقد أن كلاهما على صواب طالما لا يوجد مرجعية قانونية موثقة أجمعت عليه الامة تحتكم إليه وبالتالي البيان الذي ألقاه سيدنا ابو بكر لا يكفي بل يمثل فقط الخطوة الأولى في بناء مشروع الدولة .... لذلك نرى مثلا الدولة الرومانية لم تتعرض لمثل تلك الأزمات في التاريخ الروماني بسبب صلابة الأرضية القانونية والدستورية لتلك الدولة ... علما بان التشريع الاسلامي يشتمل فقط على القوانين العادية ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي فقط اما القوانين الدستورية التي تشتمل على آليات انتاج وممارسة السلطة فقد تركها الشارع للخبرة البشرية التراكمية لأنها تخضع للمتغيرات التاريخية و الحضارية السائدة