قضايا وآراء

"نعم نحن الإخوان المسلمون"

محمود عبد الله عاكف
1300x600
1300x600
لقد كتبت مقال بهذا العنوان منذ حوالي خمسة وعشرين عاما، وتحديدا في بداية عام 1995، عندما تم القبض على عدد من الإخوان في كانون الثاني/ يناير 1995 وتم توجيه الاتهام لهم بالانتماء لجماعة الإخوان المسلمين. وهذه كانت المرة الأولى التي يتم فيها توجيه هذا الاتهام في عهد حسني مبارك.

وأذكر أن المقال تناول أن الانتماء للإخوان المسلمين لا يعتبر اتهاما أو تهمه، بل على العكس هو "شارة شرف". وذلك في تقديري لأن جماعة الإخوان المسلمين تفهم الإسلام (وهو الرسالة الخاتمة) فهما صحيحا شاملا، وأنه نظام متكامل للحياة وليس مجرد طقوس عبادية وتعبدية، وفي نفس الوقت لم تحجر هذا الفهم على نفسها وتدعي أنها جماعة المسلمين. والأستاذ المؤسس رحمة الله أكد على ذلك، وحدد أن أول أركان البيعة هو الفهم، بالإضافة إلى حديثه عن وصف الإسلام بأنه دين ودوله وعقيدة وعبادة.. وللأسف لم تنشر المقال لأسباب مختلفة.

وفي خريف نفس العام تم عقد ندوة باسم مركز الدراسات الحضارية حول نفس المعنى في الولايات المتحدة، بالتعاون مع مركز التفاهم المسيحي الإسلامي في جامعة جورج تاون في واشنطن، وكان يرأسه الدكتور جون إسبزيتو. وكان عنوان الندوة "الإسلام دين حياة"، وتمت دعوة عدد من المفكرين المسلمين وغير المسلمين في عدة مجالات، وكان على رأسهم الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله.

إن الجائحة التي نعيشها جميعا، وفيروس كوفيد-19 الذي جعل العالم كله يغلق حدوده بل ويتم التعامل بين الدول بطريقه انتهازية وحتى بين الدول التي بينها اتفاقيات تعاون أو وحدة، بالإضافة إلى ردة الفعل تجاه الحدث؛ فالبعض لم يبال وطُرحت فلسفة مناعة القطيع من بعض الحكومات وأنها على استعداد بالتضحية بوفاة مليون شخص في مقابل الهلع الذي حدث لحكومات أخرى.. إن ما نعيشه الآن من كارثة الوباء ليس بجديد على العالم، فمع أن عدد حالات الإصابات اقترب من العشرة ملايين حالة، وعدد الوفيات تجاوز النصف مليون حالة وفاة وما زال العالم يتوقع المزيد أو ما يطلق عليه بالجولة الثانية للوباء، فقد حدث منذ مئة عام تقريبا وباء الإنفلونزا الإسبانية، التي خلفت ما يزيد عن 30 مليون حالة وفاة، أثم اندلعت الحرب العالمية الثانية وراح ضحيتها كثر من 50 مليون إنسان. وما تزال الكوارث مستمرة، وإن معظمها تعود لطبيعة نظام الحياة الذي يعيشه الإنسان في عالمنا المعاصر، سواء كان ما يطلق عليه رأسمالي ليبرالي غربي أو اشتراكي ماركسي شرقي؛ لأن كليهما من صنع الإنسان.

قد كثر الحديث في الفترة الأخيرة عن شكل العالم بعد الجائحة والنظام الذي سيحكم. هنا تذكرت المقال وكيف أن الإسلام قدم للبشرية نظام حياة متكامل قابل للتطبيق (وليس مجرد شعارات أو منظور عام) يشمل كافة جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحتى البيئية، وذلك كما ذكرت لأنه هو الدين الخاتم وليس من بعده من رسائل أو رسل.

وهذا النظام تم تبيانه للناس منذ أكثر من ألف وأربعمئة عام، مع اكتمال البعثة المحمدية وقوله تعالى في سورة المائدة "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا". والدين هنا هو نظام الحياة وشريعتها، وذلك فهما من الآية في سورة يوسف "وما كان ليوسف أن يأخذ أخاه في دين الملك".

ومن مميزات هذا الدين أو نظام الحياة الذي يدعو له أنه لا يفرض الالتزام بعقيدة معينة، فيمكن لغير المسلمين أن يستفيدوا من هذا النظام ويطبقوه في حياتهم الدنيا إذا طبقوه بجوانبه المختلفة بشكل كامل ومتكامل. وهناك أمثلة كثيرة لنظم غربية، سواء ليبرالية أو اشتراكية، قد توصلت إلى ما أقره النظام الإسلامي بداية من قضايا الحرية وحقوق الإنسان وتكريم المرأة. فالمرأة مثلا في إنجلترا والغرب لم يكن لها حق الميراث أو التملك أو التصرف فيما تملكه حتى عام 1870.

بالطبع لا يقول أحد إنهم أخذوا هذا النظام الجزئي أو ذلك عن الإسلام، ولكن كان هذا نتاج تطور العقلية البشرية، فبدا لهم أن المرأة لها الحق في التملك والميراث في عام 1870، والنظام الإسلامي أقر ذلك في القرن السابع الميلادي.

ونموذج آخر عاصرناه خلال الأسابيع الماضية، وهي قضية العنصرية ومقتل الأمريكي من أصول أفريقية جورج فلويد، وكيف خرج الشعب الأمريكي، أبيض وأسود وأصفر، من أجل الاحتجاج على مقتله على يد أحد رجال الشرطة في ولاية مينيسوتا.. هذه الصورة تتكرر منذ منتصف القرن الماضي، مع أحداث ولاية ألاباما عندما تم احتجاز وسجن إحدى النساء من أصول أفريقية لمجرد أنها رفضت القيام لرجل أبيض في إحدى الحافلات العامة.

وبالتأكيد حدث قبل ذلك الكثير من الأحداث تجاه الأفارقة الذين كانوا يعاملون كالعبيد، وتجاه أصحاب الأرض الأصليين من الهنود الحمر حتى القرن التاسع عشر الميلادي، ولكن لم يوثق منها إلا القليل.

وتم سن قانون الحقوق المدنية عام 1964، ولكن الشعب الأمريكي ما يزال يعيش في الحلم الذي كان يحلم به لوثر كنج لمجتمع ليس هناك فيه فرق بين أبيض أو أسود أو أصفر أو أحمر، ولكن هيهات هيهات. والنظام الإسلامي منذ أول يوم حدد أنه لا فرق بين أبيض أو أسود أو عربي أو أعجمي، وأن الجميع سواسية ويجب أن يعاملوا بالمثل.

والعقلاء في العالم منذ زمن ليس قريبا وهم يبحثون عن نظام حياة مختلف عما يعيشونه، وقد قاموا بنقد النظام الذي يعيشونه، سواء كان النظام الغربي الليبرالي أو النظام الشيوعي الشرقي. من هؤلاء أرنولد توينبي أو جورج لوكاش وغيرهم، فقاموا بنقد فكرة الديمقراطية التي يتغنى بها العالم، وأنها غير واضحة المعالم. فالمفهوم أنها حكم الشعب للشعب، والغرب يدعي أنه ديمقراطي، وروسيا والصين أيضا، حتى السيسي يقول إنه حكم ديمقراطي.

ففي أمريكا، نموذج الديمقراطية كما يدعون، نجد ترامب لم يُنتخب من الشعب، وكان اختيار غالبية الشعب الأمريكي لهيلاري، فهو لم ينجح في الانتخابات إلا بسبب عدد ممن يطلق عليهم "النواب الخونة" في المجمع الانتخابي. ونفس الحالة حدثت في انتخابات عام 2000 بين بوش الابن وإل جور. وما زال الشعب الأمريكي ومن خلفه العالم يحلم بالديمقراطية، ونحن ما نزال نختلف حول كيف نسير خلفهم.

وكذلك نجد الجانب الاقتصادي في النظام، والذي يُسمى نظاما ليبراليا أو اشتراكيا أو نيوليبراليا. وكل فترة زمنية (10 إلى 12 عام تقريبا) يمر العالم بأزمة اقتصادية مثل الكساد العظيم عام 1929 وحتى الأزمة التي نعيشها الآن، وتحدّث الكثير من الاقتصاديين الغربيين قديما وحديثا عن دور الفائدة في مثل تلك الأزمات، وكيفية تحقيق أوضاع اقتصادية أفضل مع أسعار الفائدة صفر.

ونفس الصورة نراها في الجزء الاجتماعي من النظام، وتتكرر المشاهد في باقي أجزاء النظام سواء الصحي (لعل البعض يتذكر أن الخمور كانت محظورة بيعا وشراء في الولايات المتحدة لضررها على الصحة بناء على التعديل الثامن عشر للدستور والذي تم إلغاءه عام 1933)، أو الجزء البيئي من النظام، وغيره من مكونات نظام الحياة. فالعالم أجمع شرقه وغربه ما يزال يبحث عمن يقدم له نظام حياة يعيش من خلاله حياة آمنة مطمئنة مستقرة.

وهنا أعود إلى فهم الإمام المؤسس رحمه الله عندما تحدث عن مراحل الدعوة، بداية من إعداد وتكوين الفرد ثم الأسرة، ونهاية بالخلافة وأستاذية العالم، والتي فهمها البعض بأنها سيطرة الإخوان أو المسلمين على العالم بعد إقامة الخلافة. وهذا في تقديري فهم غير موفق، وأعتقد أن المقصود بتلك المرحلة هو أن يتم تقديم نظام الحياة الإسلامي ليطبق في العالم وباختيار البشرية كلها، بعد أن تكون قد قدمت مرحلتا الدولة والخلافة النموذج والقدوة في هذا التطبيق. ولكن الجميع سيعيش من خلال النظام الذي اختاره رب العالمين للإنسان ليكون آمنا مطمئنا ويستحق أن يكون خليفه في الأرض.

وجدير بالذكر أن نشير إلى أن الأستاذ البنا طرح هذا التصور في المؤتمر الخامس عام 1939، وكانت إرهاصات الحرب العالمية الثانية قد بدأت، ولكنه عليه رحمة الله كان ينظر إلى الصورة الكلية ويرسم ملامحها بشكل متكامل، ولم ينظر إلى مصر أو فلسطين أو العرب أو حتى المسلمين فقط.

كلمة أخيرة لقد كادت المئة سنة الأولى على تأسيس الجماعة أن تنتهي، وعلى هذا المدى يبدو أنه كانت هناك فرص لم تُستغل بالشكل الأنسب، أيضا بالتأكيد كانت هناك أخطاء في ظل الصراعات الدائمة على مدى تلك العقود. ولأنه ليس هناك بشر معصوم إلا الرسل فيما ينقلونه عن رب العزة، وفي نفس الوقت كانت هناك إيجابيات عديدة.

ويكفى أن جماعة الإخوان المسلمين (في تقديري) أصبحت كيانا على مستوى العالم لا يمكن التغاضي عنه أو تجاوزه. ولعل الله سبحانه وتعالى ينير بصيرتنا جميعا ونرى الصورة الكاملة ولا نتوقف عند ما هو تحت أقدامنا. وهذا له حديث آخر إن شاء الله.. ونعم نفخر ونعتز بأننا الإخوان المسلمون.

والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل.
التعليقات (0)