تقارير

لاجئ من يافا: لهذا أبقى النظام العربي الفلسطينيين تحت سيطرته

كاتب ومؤرخ فلسطيني يروي لـ "عربي21" قصته مع اللجوء وشهادته على نشأة المقاومة  (الأناضول)
كاتب ومؤرخ فلسطيني يروي لـ "عربي21" قصته مع اللجوء وشهادته على نشأة المقاومة (الأناضول)

يواصل الكاتب والباحث في شؤون التاريخ الفلسطيني عبد القادر ياسين، رواية قصته مع اللجوء، التي خص بها "عربي21"، وعرض شهادته على نكبة فلسطين وبواكير المقاومة..  

الكتيبة 141 فدائيون.. 

بعد أن عمد عبد الناصر إلى تشكيل "الكتيبة 141 فدائيون"، ممن سبق أن أدانتهم المحاكم العسكرية بتهمة "التسلل إلى الوطن المحتل"، وقضت بسجنهم ما بين 6 و10 سنوات؛ هنا، تولى البكباشي (المقدِّم) مصطفى حافظ مهمة اختيار مقاتلي الكتيبة المشار إليها، من بين هؤلاء "المتسللين"، فتمكن حافظ من اختيار نحو خمسمئة منهم للكتيبة، التي تولى قيادتها، إضافةً إلى مئتين أُخريين، انتقاهم من خارج السجون. وهم الأدرى بطرق، وشعاب فلسطين المحتلة، والأقدر على إيلام الإسرائيليين.

بدأ فدائيو "الكتيبة 141 فدائيون" أعمالهم، مستخدمين الرشاشات "كارلوجوستاف" السوفييتية الصنع، والتي صنَّعت المصانع الحربية لها مثيلًا، أطلقت عليه اسم "بورسعيد"، كما تسلح الفدائيون بالقنابل اليدوية، المعروفة باسم "ميلز"، وارتدوا أحذية مطاطية خفيفة، مناقضة لأحذية الجنود الثقيلة. إلى أن أمطرت القوات الإسرائيلية مدينة غزة بقذائف المورتر، وذلك، في أحد أيام نيسان/ أبريل 1956؛ هنا أتى حافظ بالفدائيين، إلى المواقع المقصوفة، وكشف لهم الدماء، والدمار، والجثامين الملقاة في الشوارع، قبل أن يُطلقهم حافظ إلى فلسطين المحتلة، كل مجموعة إلى مدينتها، أو بلدتها الأصلية، فأوقعوا عشرات القتلى، في لحظات، وعادوا سالمين، عدا عشرة، فقط. ما هزَّ المشروع الصهيوني من جذوره. وبدأ التفكير بضرورة التخلُّص من هذه الظاهرة، بدءًا من عقلها المدبِّر، حافظ.

وقع أحد الفدائيين، واسمه مدفظ الطلالقة، أسيرًا لدى القوات الإسرائيلية، فطلبوا منه العمل لحسابهم، وأبدى موافقة، فأطلقوا سراحه، وذهب ـ من فوره ـ ليُعلِم حافظ بالأمر. فطلب إليه الأخير الاستمرار في "اللعبة". وذات مرة، أخبرته المخابرات الإسرائيلية أنها بصدد تسميم خزان مياه محدد في مدينة غزة، وحددت له الزمان. وصباح الموعِد المحدَّد، لاحظ الإسرائيليون بأن الخزان المعني، وما حوله، قد غص بالجنود المصريين. كرَّر الإسرائيليون المحاولة، فتكرر الفعل نفسه، هنا، تأكَّدوا بأنهم وقعوا على الصيد الثمين؛ عميل مزدوج يُضلِّلهم، لحساب المخابرات الحربية المصرية.

هنا، طلب الإسرائيليون إلى الطلالقة إيصال قاموس ضخم إلى اليوزباشي (نقيب) لطفي العكَّاوي، مفتش المباحث العامة في مدينة غزة، وأفهم الإسرائيليون الطلالقة، بأن هذا القاموس بمثابة شِفرة، يستخدمها العكَّاوي، في التراسل مع المخابرات الإسرائيلية. تفحَّص الطلالقة القاموس جيدًا، وقلَّبه، قبل أن يأخذه أحد أفراد المخابرات الإسرائيلية، ليُغلِّفه، ويُعيده إلى الطلالقة.

عاد الطلالقة إلى غزة. وراقبه الإسرائيليون، حتى تأكدوا بأن الطلالقة قد انعطف، بما يحمل إلى مكتب حافظ، دون مكتب العكَّاوي. وهو المطلوب إسرائيليًا.

حين علم حافظ بالأمر، صُدِم بعمل العكَّاوي مع الإسرائيليين، وكان في المكتب ضابط مخابرات حربية مصري، ومحمد مصطفى حافظ، فطلب إليهما حافظ مغادرة المكتب، قبل أن يتحادث مع الطلالقة. وعرض حافظ أن يفتح المظروف، كي يتأكَّد بنفسه، لكن الطلالقة رجاه ألَّا يفعل، لاحتمال أن يكون المظروف مفخخًا، لكن حافظ طمأن الطلالقة، بأنه سيفتح المظروف من طرفه، لكنه ما أن فعل، حتى دوَّى انفجار مروِّع، ذهب بحياة حافظ، وعينيّ الطلالقة، الذي عاش نحو خمسين عامًا لاحقة، قبل أن يموت في القاهرة.

بذا، وُضِع حدٌ لحياة هذا القائد الفدائي الجسور، مساء يوم 11 تموز/  يوليو 1956، ولكن بعد أن نجح بكتيبته الفلسطينية في إلحاق نحو ألف وأريعمئة قتيل بالجانب الإسرائيلي، ومن بعده توقفت عمليات "الكتيبة 141 فدائيون"، التي خلفه فيها البكباشي (المقدم)، فتحي محمود، وشتَّان بين الإثنين. على أن الأهم أن عبد الناصر كان يُحضِّر للإعلان عن تأميم قناة السويس (26/ 7/ 1956)، ومن الحكمة إيقاف عمليات الفدائيين، إلى حين.

كان عدوانا رباعيا وليس ثلاثيا

 
بعد "الكتيبة 141 فدائيون"، و"صفقة الأسلحة التشيكية"، وتأميم قناة السويس، تشكَّلت "هيئة المنتفعين بقناة السويس"، من بين الدول الاستعمارية، وتصاعدت الأزمة، على نحو دراماتيكي، إلى أن كان "العدوان الثلاثي"، البريطاني ـ الفرنسي ـ الإسرائيلي، على مصر، وقطاع غزة، بدءًا من 29 تشرين الأول/ أكتوبر 1956، والذي أخفق في تحقيق أي من أهدافه السياسية، بسبب صمود الشعب المصري، والتفافة من حول قيادة عبد الناصر، بعد أن كان تقدير البريطانيين، بأن الشعب المصري سينفجر، في ثورة عارمة ضد نظام عبد الناصر، بمجرّد بدء العدوان. 

كانت واشنطن شاركت بقواتها في هذا العدوان، أي أنه كان عدوانا رباعيًا، وليس ثلاثيا، على وعد من بريطانيا ألا يستمر العدوان أكثر من 24 ساعة، فقط، وحين امتد العمر بالعدوان لما بعد هذا الموعد، تلقَّت القوات الأمريكية أمرًا من قيادتها بالانسحاب الفوري، حتى لا تترك واشنطن فرصةً للاتحاد السوفييتي، كي يظفر بالانتصار وحده. وأصدرت واشنطن مع موسكو بيانًا مشتركًا، أدان العدوان، وطالب بوقفه، فورًا. 

أما السوفييت فسارعوا إلى إنذار دول العدوان الثلاث بقصف عواصمها بالصواريخ العابرة للقارات، إن لم تسحب دول العدوان قواتها من الأراضي المصرية. فكان انسحاب القوات البريطانية، والفرنسية، من بورسعيد، يوم 23 كانون الأول/ ديسمبر 1956، وهو اليوم الذي عُرِف باسم "عيد النصر"، وفيه حرص عبد الناصر على إلقاء خطاب سياسيٍ جامع، ودراماتيكي، كما حدث في الذكرى الثانية للعدوان، حيث خصص عبد الناصر خطابه للهجوم على الشيوعيين السوريين، لتمسُّكهم بإشاعة الحريات الديمقراطية في "الجمهورية العربية المتحدة"، التي قامت نتيجة وحدة مصر، وسوريا (22/ 2/ 1958)، كإحدى ثمار النهوض العربي، الذي سرَّعت في حدوثه انتفاضة مارس الغزيَّة، وبعد أن قدَّم عبد الكريم قاسم رأس الثورة العراقية (14/ 7/ 1958)، الثمرة الأخرى لذاك النهوض، عرضًا بإقامة اتحادٍ فيدرالي، بين "المتحدة"، والعراق، تفاديًا للسلبيات التي شابت تجربة الوحدة المصرية ـ السورية.

أما المرة الثانية، فكانت في الاحتفال بالذكرى السابعة لـ "عيد النصر" (23/ 12/ 1963)، وفي خطابه هنا، دعا عبد الناصر إلى عقد قمَّة عربية، لمواجهة مشاريع إسرائيل لتحويل مجرى نهر الأردن. وهي القمة التي انعقدت، فعلًا، في القاهرة (13 ـ 17/ 1/ 1964)، وقد وضعت هذه القمة اللمسات الأخيرة لإحياء الكيان السياسي الفلسطيني، بهدف احتواء توق الشعب الفلسطيني لأخذ قضيته الوطنية بين يديه بعد أن طال إهمال الأنظمة العربية لهذه القضية. 

قصة العمل الفصائلي الفلسطيني

وكان أربعة رؤساء دول يُمثِّلون أربعة اتجاهات سياسية مختلفة، قد طالبوا الشعب الفلسطيني بأخذ قضيته الوطنية بين يديه، وسلوك طريق الثورة الجزائرية؛ وجاءت دعوات هؤلاء الرؤساء، في المدة ما بين آذار/ مارس، وتموز/ يوليو 1962. وهؤلاء الرؤساء هم، على التوالي: الملك سعود بن عبد العزيز (ملك العربية السعودية)، بشير العظمة (رئيس وزراء سوريا)، وجمال عبد الناصر (رئيس الجمهورية العربية المتحدة ـ مصر)، وأحمد بن بيلا (أول رئيس لجمهورية الجزائر المستقلَّة)، لذا، لم يكن غريبًا أن يهل العام 1963، ويكون ما يربو على الثلاثين فصيلًا فدائيًا فلسطينيًا قد أعلن عن قيامه. 

صحيح أن النسبة الأكبر من هذه الفصائل لم تزد عن اللافتة، وبضعة أعضاء مؤسسين، لكن هذا الرقم الكبير من الفصائل إنما يعكس مدى تعطُّش الشعب الفلسطيني لأخذ قضيته الوطنية بين يديه، بعد طول إهمال من شتى الأنظمة العربية لهذه القضية.

أما لماذا كان ظهور هذه الفصائل في الكويت، دون غيرها من الدول العربية، فيعود إلى أن الكويت كانت تضم جالية فلسطينية كبيرة، احتل بعض أبنائها مواقع ذات شأن في الدولة، وفي المهن المرموقة، كالطب، والهندسة، وبدرجة أقل في السلك الدبلوماسي، ما سمح بظهور فئات وسطة فلسطينية، حققت حضورًا اقتصاديًا، واجتماعيًا، وثقافيًا لافتًا؛ ما جعلها تحث الخطى لتحقيق حضورٍ سياسيٍ موازٍ، خاصةً وأن سدَّة قيادة الحركة الوطنية كانت شاغرة، منذ نحو عقد ونصف، ثم إن الكويت كانت تحظى بهامش في الحريات الديمقراطية، يفوق غيرها من الدول العربية، ناهيك عن أنها لم تكن عضوًا في "نادي المنتفعين بالقضية الفلسطينية"، شأن بقية الدول العربية.

أما لماذا لم تظهر تلك الفصائل في أي من دول الطوْق، فلسبب بسيط جدًا، مؤداه أن هذه الدول وقفت بالمرصاد لكل نواة كيان سياسي فلسطيني، وفتكت بها.

كلَّفت القمة العربية الأولى أحمد الشقيري باستطلاع رأي شتى التجمعات الجغرافية الفلسطينية، في دول اللجوء، عن الورقة التي ترغب هذه التجمعات أن يظهر فيها الكيان السياسي الفلسطيني. لكن الشقيري تجاوز التكليف، وفاجأ القمة العربية الثانية (الإسكندرية: أيلول / سبتمبر 1964)، بالأمر المقضي؛ حيث كان الشقيري نجح في عقد "المؤتمر الوطني الفلسطيني الأول"، في القدس، أواخر أيار/ مايو، وأوائل حزيران/ يونيو 1964، بل نجح في إقناع الملك حسين، ملك الأردن، بإلقاء خطاب افتتاح هذا المؤتمر. على أن الشقيري كان أعجز من أن يُحقِّق هذه المعجزة، بدون الدعم، الخفي والمعلن، من عبد الناصر.

لم يكن مستهجنًا أن تتمخَّض هاتان القِمَّتان عن تشكيل "القيادة العربية الموحَّدة"، التي أخذت على عاتقها قمع الأعمال الفدائية الفلسطينية، بينما أوكلت لمنظمة التحرير مهمَّة امتصاص شوْق الشعب الفلسطيني لكيان سياسي، حرص النظام السياسي العربي على إبقاء ذاك الكيان تحت السيطرة!

تسارعت الأحداث، على النحو المعروف، حتى اندلعت حرب حزيران/ يونيو 1967، وكانت الهزيمة العربية المدوِّية، ووقع قطاع غزَّة، مع كل سيناء المصرية، والجولان السورية، والضفة الغربية للأردن تحت الاحتلال الإسرائيلي، وبذا حقَّق الأعداء جُملة من الأهداف ضد الوطن العربي، وانفتحت صفحة جديدة في حياة هذا الوطن.

 

إقرأ أيضا: يافا الفلسطينية.. كانت مهدا للصحافة والثقافة قبل النكبة

 

إقرأ أيضا: "يافا" في ذاكرة لاجئ فلسطيني.. تاريخ لا يبلى

 

إقرأ أيضا: فلسطينيو يافا.. سياحة خاطفة فلجوء مديد

 

إقرأ أيضا: لهذا سقطت يافا.. وهُزّمت الجيوش العربية

 

إقرأ أيضا: قصة لاجئ من يافا.. أربع سنوات عجاف في غزة

 

إقرأ أيضا: لاجئ من يافا ونشأة "الشيوعي" الفلسطيني وثورة 52 المصرية

 

إقرأ أيضا: لاجئ من يافا في ذكرى النكبة.. قطاع غزة ينهض بالوطن العربي

التعليقات (0)