مقالات مختارة

أيقونات من يوميات الانتفاضة العراقية

صادق الطائي
1300x600
1300x600

مع انتهاء شهرها الأول، بدأت تظهر علامات تبلور سمات الانتفاضة العراقية التي انطلقت في مطلع شهر تشرين الأول/أكتوبر 2019 في بغداد، وبعض مدن الجنوب، سمات تميزها عن كل حركات الاحتجاج والانتفاضات التي مرّ بها العراق سابقا، مميزات تحسب لجهة سلميتها، عفويتها، عدم وجود تيار سياسي ركب موجتها حتى الآن، حيرة المراقب في توصيفها، أعمار المشاركين فيها، وتنوع مشاربهم وطبقاتهم وتحصيلهم الدراسي.


ومن العتبة الأولى، اسم الانتفاضة، يمكننا ملاحظة محاولة إطلاق التسمية الأيقونية على الحراك الجماهيري، فبعد أن كانت انتفاضة الصدور العارية نسبة لتوصيف شباب الحراك، مرورا بانتفاضة تشرين، وصولا إلى ثورة أكتوبر، لنصل إلى ثورة 25 أكتوبر. ومن المعلوم ان العراقيين يستخدمون تسميات الأشهر المشرقية، وبذلك يكون اسم «انتفاضة تشرين» متسق مع تعامل العراقيين مع أشهر التقويم، فهم يسمون حرب 1973 مثلا حرب تشرين، بينما بقية العرب في مصر والمغرب العربي يستعملون تسمية تشرين الأول/ أكتوبر للشهر العاشر من السنة الميلادية، لكن البعض، خصوصا من ذوي الهوى اليساري، رأى تماهيا بين الانتفاضة العراقية والثورة الروسية الكبرى، فأحب أن يطلق على الانتفاضة العراقية اسم «ثورة 25 أكتوبر» لتأخذ صيغتها الأيقونية، على الرغم من غرابة اسم الشهر على الأذن العراقية.


الأيقونة الأبرز ماديا، كانت المبنى الكونكريتي المتجهم المواجه لنصب الحرية في قلب ساحات التحرير في وسط بغداد، الذي عرف تجاريا باسم مبنى المطعم التركي، إشارة لاحتلال المطعم التركي لطابقه الأخير (الطابق 14) عند افتتاحه عام 1983. هذا المبنى الذي تعرض للقصف إبان الاحتلال الامريكي لبغداد، نتيجة تمترس مقاومين في طوابقه حاولوا إيقاف تقدم الدبابات الأمريكية على جسر الجمهورية، فردت عليهم الدبابات والمروحيات الأمريكية بقصف المبنى، الذي أشيع حينها أن القذائف التي أصابته كانت تحوي يورانيوم منضب، ما جعل المبنى ملوثا إشعاعيا، بينما ذكر آخرون أن أسس المبنى تعرضت لهزات جعلت البرج غير آمن الاستخدام، فأهمل طوال 16 عاما، لكنه استخدم مرارا من قوات الحكومة المكلفة بمكافحة الاحتجاجات، التي كانت تتحصن فيه نتيجة موقعه الاستراتيجي، ومنه كانت تقوم بعمليات الرصد، ما مكنها من معرفة حراك التظاهرات، وإلقاء القنابل المسيلة للدموع، والرصاص المطاطي، وحتى الحي، كما قيل إن القناصة الذين قتلوا متظاهري الأول من تشرين، كانوا يطلقون النار وهم متحصنون في طوابق هذا المبنى.


في الموجة الثانية من الانتفاضة العراقية، التي انطلقت يوم 25 تشرين الأول/أكتوبر، سارع المحتجون لاحتلال طوابق بناية المطعم التركي وتحصنوا فيها، ودفعوا بسبب ذلك خسائرا بالأرواح، إذ قتل البعض كما أصيب العديدون منهم بجروح خطيرة، لكنهم صمدوا وسيطروا على المبنى وتحصنوا فيه، وباتوا هم من يراقب منه حراك القوات الأمنية القادمة من المنطقة الخضراء، ليوجهوا رفاقهم على الأرض لتلافي ضربات قنابل الغاز. وليتحول المبنى إلى أيقونة الانتفاضة، وبات يطلق عليه عدة أسماء أيقونية مثل؛ الجنائن المعلقة، زقورة الثوار، برج الحرية، قلعة الثورة، لكن الاسم الأشهر: جبل أُحُد. وانطلقت عدة أفكار لمشاريع مقبلة قد يضمها المبنى مستقبلا، كما أطلق العديد من النكات الثورية بخصوص هذا المبنى، منها طلب رئيس الحكومة العراقية من الرئيس التركي سحب مطعمه، لأن الثوار جننوا القوات الحكومية وهم يتحصنون في طوابقه.


الأيقونات البشرية توزعت على عدة محاور لم تعرفها ساحات الاحتجاج سابقا وبهذه الكثافة، فالأيقونة الأولى كانت سواق عربات الـ (التوك توك) الذين أدوا أدوارا بطولية في إخلاء الجرحى، ونقل المؤن، واختراق الحواري والشوارع الضيقة للوصول إلى خط المواجهة مع قوات القمع الحكومية، وقد تعرض عدد من سواق هذه العربات إلى إصابات أو إلى احتراق عرباتهم، وهم في الغالب فتية متحدرون من المناطق الشعبية الفقيرة، وهم من محدودي التعليم الذين لا يمتلكون مصدرا لكسب رزقهم الشحيح إلا هذه العربات، وعلى الرغم من كل ذلك كانوا أيقونة الانتفاضة الحقيقية برفضهم أخذ الأجور، وتفرغهم للعمل التطوعي من دون خوف أو كلل أو مباهاة، بل كانوا يقومون بأدوارهم الاحتجاجية وهم يشعرون بأنهم يؤدون واجبا مستحق التقديم لوطنهم. وقد أطلق المتظاهرون العديد من الهتافات والأغاني والأهازيج التي تثمن دور هؤلاء الفتية الشجعان، الباذلين لكل ما يملكون من دون انتظار ثمن.


والأيقونة الأبرز ظهورا في انتفاضة تشرين، كانت المرأة العراقية بكل أوضاعها الاجتماعية، من نساء كبيرات في السن يقدمن الخدمات للمحتجين من الطعام والتطبيب، إلى شابات الجامعات والمدارس اللواتي أدّين أدوارا مشرفة في حركة الاحتجاج، بالإضافة إلى دورهن في الطبابة والاهتمام بالجرحى في وحدات الميدان الطبية، وكان سلوكهن نموذجا للوعي الحضاري المتمثل بالمشاركة في كل ما يقوم به أقرانهن من الشباب، حتى في حملات تنظيف ساحات الاحتجاج، كل ذلك في خضم جو تسوده روح عالية من الانتماء والوطنية، إذ لم تشهد ساحات الاعتصام حالات تحرش، كما كان يشاهد في الشارع العراقي، وكل ذلك مثّل دلالة على السلوك القائم على التعاطي المحترم مع المرأة في الانتفاضة العراقية.


وقد ظهر سلوك (المواكب الدينية) وما ترسخ جراءها من خدمة زوار العتبات المقدسة في الشعائر الدينية، التي شارك فيها الآلاف طوال السنوات الماضية، ظهر في هذه الانتفاضة جليا، وبرز كحالة تفان في خدمة الجموع الموجودة في ساحات الاحتجاج في بغداد ومدن الجنوب، وبرزت القدرة العالية على التنظيم المكاني واللوجستي، والقدرة في بناء خيام الاعتصام، وظهور السلوك الجماعي المتأزر، من دون انتظار شكر أو حتى امتنان، بل العكس هو الصحيح، إذ يشعر من يشارك في هذه النشاطات أنه بتقديمه الخدمة يكون قد حقق فوزا أخلاقيا ودينيا وإنسانيا، وفي الحراك الأخير أضيف لكل ما سبق الإحساس والمشاعر الوطنية؛ فقد شوهدت خيام المواكب تنصب بسرعة، وقيام النساء والرجال على توفير الطعام والشراب وخيام المبيت للمعتصمين، والتناوب على التنظيف، بالإضافة إلى روح التبرع التي تسود هذه النشاطات، فيكون الجهد الجماعي مقدما من دون أن يعرف أحد من يقف وراءه.


يضاف إلى ذلك حراك أيقوني كان منسيا من زمن طويل، وهو مشاركة قطاعات الطلبة في الحراك الجماهيري بعد أن كاد ينسى أي دور لهم في الحياة السياسية، وكذلك حال نشاطات النقابات التي نزلت إلى ساحات الاعتصام وسجلت حضورا مهما بمشاركتها في الاحتجاج باعتبارها ممثلة لقطاعاتها، مثل نقابة المحامين ونقابة العمال وبعض الاتحادات المهنية، وقد أعطت المشاركة الطلابية والنقابية زخما كبيرا لحركة الاحتجاج الشعبية، وأخرجتها مما أريد لها من تغليفها بالعزلة واتهامها بالمؤامرة والدسائس من أحزاب الحكومة وقنواتها الإعلامية.


لم يعد العراقي اليوم يتحسر وهو يشاهد ثورات تونس ومصر ولبنان السلمية التي أطلقها شباب هذه البلدان، بل بات يفتخر بأنه ليس أقل شأنا من هذه الشعوب، لكن يبقى شعور الخوف والحذر من المجهول المقبل الذي يحاول البعض تصويره بصيغة إن الحرب الأهلية مقبلة لا محالة نتيجة الانتفاضة، هذا الهاجس هو ما يقلق المشهد الاحتفالي وأيقوناته اليوم.

 

عن صحيفة القدس العربي اللندنية

0
التعليقات (0)