قضايا وآراء

الاستبداد والفساد وعسكرة الاقتصاد: الحالة المصرية نموذجا

أشرف دوابه
1300x600
1300x600

تمر مصر بمرحلة مخاض متوقعة، في ظل حراك ثوري يعوقه تكتل أمني في دولة بوليسية، وهذا يلقي بظلاله على طبيعة الحالة المصرية التي تنفست الحرية في ثورة يناير 2011م، ثم أصبح بينها وبين الحرية حجاب مستور مع انقلاب العسكر و"سيسيهم" على أول رئيس مدني منتخب الدكتور محمد مرسي في الثالث من تموز/ يوليو 2013م.

وقد أثبتت أحداث الجمعة الماضية ما آلت إليه مصر من استبداد، وإن كان الحراك علامة صحية في ظل موات وانكماش منذ ست سنوات. ومن السنن الكونية أنه ليس من وراء الاستبداد إلا الفساد، وليس وراء الفساد إلا خراب العمران، وهذا هو واقع الحالة المصرية.

وقد بيّن القرآن الكريم هذه الحقيقة بصورة جلية واضحة في قصة فرعون مصر في الماضي، وهي تنطبق على كل فرعون في كل عصر ومصر فالله تعالى يقول: "وفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلاد فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ" (الفجر:10-13).

 

أثبتت أحداث الجمعة الماضية ما آلت إليه مصر من استبداد، وإن كان الحراك علامة صحية في ظل موات وانكماش منذ ست سنوات. ومن السنن الكونية أنه ليس من وراء الاستبداد إلا الفساد

فالطغيان يفتح باب الفساد على مصراعيه، ويؤسس لدولة الفساد وإدارته بصورة منظمة، وذلك نتيجة طبيعية لغياب الشفافية والإفصاح والنزاهة والمساءلة، والنتيجة الحتمية لذلك هي خراب العمران، وضياع التنمية وانتشار الفقر وفقدان الأمن النفسي والمادي. وهذا واضح في الحالة المصرية من خلال عسكرة الاقتصاد، وترك الجيش مهمته الأساسية في بناء الخنادق والتوجه لبناء الفنادق، وترك تصنيع السلاح وتوجه نحو تجميل النساء.. ومن صناعة الإنسان نحو صناعة الأموال.

لقد رسم القرآن الكريم الحدود والمهام للاقتصاديين والعسكريين في الدولة في قوله تعالى: "وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ ? وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" (المزمل: 20)، فهذه الآية الكريمة يتضح من خلالها التخصص وتقسيم العمل في كل من ميدان الجهاد الاقتصادي وميدان الجهاد العسكري.. فالجهاد الاقتصادي مسؤولية رجال الأعمال، والجهاد العسكري مسؤولية الجيش الذي يقوده ولي الأمر، وهذا قمة التوازن في المجتمع. فرجال الأعمال يجاهدون في ميدان الاقتصاد يبنون الاقتصاد، ويجعلون للدولة كيانا اقتصاديا قويا تستكفي به حاجتها، وتعتمد على نفسها في غذائها وملبسها ودوائها، وهو ما يصل بتلك الفئة، مع إخلاص النية لله والصدق والأمانة، إلى مرتبة الشهداء التي هي غاية النوع الثاني الذي يجاهد في ميدان القتال. وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم "التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ" (رواه الترمذي).

ومن الإعجاز القرآني في بيان تلك الحقيقة أيضا أن الله تعالى ذكر كلمة الموت للمجاهد في ميدان الاقتصاد، والقتل للمجاهد في ميدان القتال، فقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأضِ أَوْ كَانُوا غُزّى لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَ?لِكَ حَسْرَة فِي قُلُوبِهِمْ ? وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ ? وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ" (آل عمران: 156-157).

 

التخصص وتقسيم العمل بين رجال الأعمال ورجال الجيش لو حدث اختلال فيه لاختل حال المجتمع ومؤسساته، وهو ما نراه بأم أعيننا في مصر، حيث ترك الجيش مهمته الرئيسة، وسيطر العسكر على الاقتصاد

وهذا التخصص وتقسيم العمل بين رجال الأعمال ورجال الجيش لو حدث اختلال فيه لاختل حال المجتمع ومؤسساته، وهو ما نراه بأم أعيننا في مصر، حيث ترك الجيش مهمته الرئيسة، وسيطر العسكر على الاقتصاد وزاحموا القطاع الخاص وطردوه شر طردة، حيث لا يمكن للقطاع الخاص المنافسة في ظل فقدان تكافؤ الفرص. فالجيش يتملك عناصر الإنتاج بصورة مجانية، وأراضي مصر في جلها ملكه، والعمالة عنده من الجنود بالسخرة، وفي الوقت نفسه هو معفي من الضرائب، في حين أن عناصر الإنتاج بثمن بالنسبة للقطاع الخاص.

كما أن القطاع الخاص يدفع ضرائب، في الوقت الذي تضيع فيه على خزينة الدولة إعفاءات الجيش من الضرائب، رغم ربحيته ودخوله في كافة مفاصل النشاط الاقتصادي، من صنع المكرونة حتى صالات الأفراح وصالونات تجميل النساء. ومن هنا، تضيع التنمية ويكون لسان الحال خراب العمران، كما قال ابن خلدون: "التجارة من السلطان مضرة بالرعايا مفسدة للجباية منقصة للعمارة".

إن ما ذكره رجل الأعمال محمد علي عن الفساد في دولة العسكر يكشف عن جانب مهم مما آل إليه حال الجيش المصري، فقد زج السيسي وبعض قياداته به في مجال لا يخصه، فبات التنافس بين هيئاته لتحقيق الربحية والمنافع الشخصية هو سيد الموقف.

 

الناظر إلى هذا الفساد يجده فسادا ممنهجا بالقانون، وقدا بدا ذلك واضحا جليا حينما عمد الانقلاب العسكري منذ قيامه إلى إصدار العديد من التشريعات الاقتصادية التي تقنن للفساد وتهدر ثروات البلاد

والناظر إلى هذا الفساد يجده فسادا ممنهجا بالقانون، وقدا بدا ذلك واضحا جليا حينما عمد الانقلاب العسكري منذ قيامه إلى إصدار العديد من التشريعات الاقتصادية التي تقنن للفساد وتهدر ثروات البلاد، وفي مقدمتها القرار بقانون الذي صدر في تشرين الثاني/ نوفمبر 2013م من الرئيس الانقلابي عدلي منصور، بالسماح للحكومة بالتخلي عن المناقصات، وإسناد المشروعات لأي شركة في الحالات العاجلة، كما أصدر عدلي منصور في نيسان/ أبريل 2014م قرارا بقانون آخر لتقنين الفساد، وذلك بحظر الطعن من طرف ثالث على العقود التي تبرمها الحكومة مع أي طرف، مصريّا كان أو أجنبيّا، وسواء أكانت تلك العقود متعلقة بالخصخصة أو ببيع أراضي الدولة أو تخصيص العقارات أو أعمال المقاولات، أو غير ذلك.

إن الجيش المصري ككيان ومؤسسة كبرى هو أكبر من هؤلاء المستبدين المفسدين، فهو من الشعب وإليه، وينبغي عدم الزج به في تلك المفاسد التي يقودها الجنرال السيسي ومنتفعيه، فضلا عن المفسدة الكبرى بتغيير عقيدته القتالية، وتحويل الكيان الصهيوني من عدو إلى صديق، واختلاق كذبة الإرهاب في سيناء لوضع دعائم لتثبيت حكمه على دماء المصريين عسكريين ومدنيين.. فمتى يفيق الأحرار مدنيين وعسكريين لفك أسر مصر المنهوبة؟!.. عسى أن يكون قريبا. 

التعليقات (1)
هيمن الخطابي
الأربعاء، 02-10-2019 02:36 م
المجندون يمثلون غالبية قوات الجيش والأمن المركزي المصري، ومعظمهم من غير المتعلمين الذين يساقون اجبارياً من أفقر القرى وعشوائيات المدن، ويعانون أثناء خدمتهم من معاملة أقرب للسخرة، ومعظم ضحايا الجيش في سيناء منهم، ويفرض عليهم الطاعة العمياء، ويعاقبون بتهمة التمرد العظمى إن تململوا، وعند انتهاء خدمتهم يخرجون بأثمالهم البالية، ويبقون تحت الاستدعاء الدوري الإجباري لسنوات طويلة، وغالبيتهم واهاليهم من المعدمين الذين يفتقرون لأدنى الخدمات من الدولة، وعندما تتدهور الأحوال المعيشية في مصر يكونون أول من يعاني من آثارها، ونفوسهم ممتلئة بالسخط على الدولة ومن يمثلها، وهؤلاء سيكونون في مقدمة الصفوف والأكثر عنفاً عند انفجار الثورة القادمة مع الانهيار القريب المتوقع لاقتصاد مصر، والله أعلم.