مقالات مختارة

نتنياهو في الخليل: قفاز اليد المضرجة بالدماء

صبحي حديدي
1300x600
1300x600

شاء لها أن تكون «زيارة تاريخية»، ليس بمعنى أنه أوّل رئيس حكومة في دولة الاحتلال الإسرائيلي يزور مدينة الخليل ويلقي فيها خطابا يمزج النهج الاستعماري الاحتلالي، بالفكر الصهيوني الاستيطاني، بالتأويل العنصري للتوراة، فحسب؛ بل كذلك في مستوى ليّ عنق التاريخ، وتزييفه وإساءة توظيفه، لخدمة مآرب انتخابية صرفة. «لقد أسقطنا عار الدرجة السابعة»، هتف نتنياهو، في إشارة إلى السقف الأعلى الذي كان مسموحا لليهود بالوصول إليه في مبنى الحرم الإبراهيمي، والذي ظلّ عرفا سائدا طوال 700 سنة خلال عهود المماليك والعثمانيين والانتداب البريطاني والعهدة الأردنية، وانتهى مع احتلال الخليل في حرب 1967 واجتياحها من جانب حفنة مئات من المستوطنين.

لكنّ هذا «الإسقاط»، أيا كان مقدار انتمائه إلى التاريخ بالمعنى الإنساني والعلمي والفلسفي المقبول، ليس حصّة نتنياهو في تاريخ الكيان الصهيوني، من جهة أولى؛ كما أنه، من جهة ثانية لا تقلّ دلالة لدى المستوطنين أنفسهم بادئ ذي بدء، نقيض ما يزعم رئيس حكومة الاحتلال، لأنه هو الذي وقّع على اتفاقية الخليل في مطلع العام 1997، وصافح الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، انحناء أمام ضغوط الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون. وهؤلاء انتظروا من نتنياهو أن يذهب أبعد من البلاغة اللفظية حول بقاء اليهود في الخليل إلى الأبد، كأن يمتثل ـ في قليل أو كثير ــ إلى ما حثته عليه وزيرة الرياضة والثقافة ميري ريغيف: «90 سنة بعد 1929، يتوجب علينا أن نقول بصوت واضح: آن الأوان يا حبرون. آن أوان السيادة في حبرون. آن أوان نموّ الجالية اليهودية بالآلاف في حبرون. آن الأوان لتصبح زيارة مغارة البطاركة أمرا طبيعيا بالغ السهولة»…

والعام 1929 الذي تشير إليه ريغيف هو «ثورة البراق» في التسمية الفلسطينية، حين شهدت مختلف أرجاء فلسطين احتجاجات عارمة دفاعا عن حائط البراق المقدسي، في وجه المحاولات الصهيونية للسيطرة عليه بوصفه «حائط المبكى». سقط المئات على طرفَيْ المواجهة بين الفلسطينيين واليهود، بينهم 67 يهوديا في الخليل؛ وحكمت سلطات الانتداب البريطاني بالإعدام شنقا على 27 فلسطينيا، وكان بين أشهر الذين أُعدموا ثلاثي شهداء عكا محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير. وبالطبع، تطلق الرواية الصهيونية صفة «الإرهاب» على الاحتجاجات الفلسطينية تلك، وليس عجيبا والحال هذه أن يستغلّ نتنياهو مرور 90 سنة على تلك الوقائع لانتهاك حرمة الخليل، وأن يلتحق به السفير الأمريكي لدى دولة الاحتلال دافيد فردمان فيستخدم التوصيف ذاته في تغريدة خصصها لإحياء لتلك الذكرى.

والحال أنّ نتنياهو كان «البطل» خلف سلسلة من التدابير التي انتهكت الاتفاق تباعا، ابتداء من منح التصاريح لإقامة المستوطنين في مجمعات سكن فلسطينية، أطلقوا عليها أسماء عبرية مثل «بيت شالوم» و«بيت راشيل» و«بيت ليا»؛ مرورا بالمخالفة الصريحة لقرار منظمة التربية والثقافة، اليونسكو، الذي نصّ في عام 2017 على اعتبار مدينة الخليل القديمة تراثا فلسطينيا؛ وليس انتهاء بطرد وحدة المراقبين الدوليين من المدينة، وإنهاء مهامها في مراقبة حسن الالتزام باتفاقية 1997.

ولكن من الصحيح، أيضا، أنّ الأغراض الانتخابية الصرفة وراء زيارة الخليل وإلقاء خطاب استعماري استيطاني عنصري هابط تاريخيا، على مبعدة أمتار من الحرم الإبراهيمي، يمكن أن ينقلب إلى النقيض والضدّ إذا حاول نتنياهو الذهاب أبعد كما يحثّ غلاة الليكود؛ فالمواسم الانتخابية حساسة من هذه الوجهة أيضا، واندلاع احتجاجات فلسطينية في الخليل (وما أدراك ما الخليل!) يمكن أن يزجّ بحكومة الاحتلال في أتون انتفاضة مصغّرة، تحتشد فيها الدلالات الدينية الإسلامية، ولا تُحمد عقباها.

ضمن إطار هذا الطراز من الحسابات الانتخابية الصغرى، اتخذ نتنياهو قراره بتأجيل زيارة إلى الهند (كان قد اعتبرها «تاريخية» أيضا!)، واستبدلها بزيارتين إلى موسكو ولندن، لم تكونا مدرجتين على برنامجه الدبلوماسي العالمي. المراقبون المعنيون بشؤون اليهود الروس في دولة الاحتلال سخروا من مساعي نتنياهو خلف زيارة موسكو، لأن شعبية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لدى المهاجرين الروس في الحضيض، خاصة لدى الشرائح الشبابية التي تعتبر بوتين دكتاتورا، ولأنّ أمل نتنياهو في الحصول من الكرملين على إقرار من أيّ نوع لخطط تسعير المواجهة مع حزب الله وإيران لن تنفع كثيرا في رفع أرصدته. كذلك فإنّ الاجتماع مع رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، وكذلك مع وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبير الذي سوف يتواجد في العاصمة البريطانية خلال زيارة نتنياهو، لن يضيف الكثير أيضا؛ ليس، على الأقلّ، من جانب جونسون الذي تواصل سفينة حكومته التيه في مياه بريكست العاصفة، قبيل الغرق المحتوم.

وللمرء أن يستعيد هنا حقيقة كبرى تخصّ اتفاق الخليل، مفادها أنه لم يكن حول مدينة الخليل، والمفاوضات الشاقة الطويلة لم تكن في الأصل قد دارت حول الخليل. والتفاهم الذي رضي به نتنياهو، بعد لأي، كان بنود تفاهم عرفات ـ شمعون بيريس وقد أُدخلت عليه تعديلات لغوية وتقنية صرفة لا تمسّ جوهره السابق، كما لا تمسّ أي جوهر لاحق بصدد أية نقاط حساسة داخل محيط مدينة الخليل. تلك كانت صيغة إجرائية حول تنفيذ ما تبقى من فصول أوسلو الأمّ، أي أوسلو الكبرى التي لا يمكن أن تكون محصلة حسابية بسيطة لمجموع الـ «أوسلوات» 1 و2 أو حتى 3؛ ولكنها في الآن ذاته لا تستطيع اختزال مكوّناتها بمعزل عن تراث تلك الاتفاقات الصغيرة. ولهذا كانت الروابط وثيقة بين إعادة الانتشار في الخليل (أو «تسليم المفتاح» كما استطاب بعض الضباط الإسرائيليين القول)؛ وبين مفاوضات الوضع النهائي، ثم مفاوضات «القضايا الكبرى» أو القضايا العالقة، وفي رأسها مسألة تحديد وتعريف السيادة الفلسطينية (دولة، حكم ذاتي بمثابة دولة غير مستقلة، حكم ذاتي يتمتع بحقوق الدولة، بانتوستان، الخ…)؛ فضلا عن قضايا فنية مثل ميناء غزّة ومطارها، والمعبر الآمن الذي يصل غزّة بالضفة، وقضايا أخرى (قيل إنها «غير فنية»!) مثل عودة اللاجئين الفلسطينيين ووضع مدينة القدس.
وبالطبع، لا أحد في دولة الاحتلال يمكن أن «يقدح» ذاكرة الكيان المعاصرة فيستعيد مجزرة باروخ غولدشتاين ضدّ المصلّين الآمنين داخل الحرم الإبراهيمي، والتي أودت بحياة 29 فلسطينيا وجرحت العشرات، واضطرت وزارة الخارجية الأمريكية ذاتها إلى توصيفها في خانة الإرهاب، ضمن تصنيف منظمة «كاهانا حيّ». لكنّ القفاز الذي ارتداه نتنياهو خلال «الزيارة التاريخية» إلى الخليل لم يكن يخفي الأيدي المضرجة بدماء الفلسطينيين هنا وهناك، فحسب؛ بل كان في الواقع بمثابة أحدث أقنعة الصهيونية المعاصرة في تنصيب أحدث ملوك الكيان، إذْ يطمح، ويحثّ الخطى، نحو تسجيل الرقم القياسي لأطول رؤساء حكومات الاحتلال بقاء في المنصب! رغم كلّ المعوّقات، غنيّ عن القول، بما في ذلك تلك القضائية التي تتفاخر بها الأصوات المدافعة عن «واحة الديمقراطية الوحيدة» في الشرق الأوسط؛ وبصرف النظر عن استطلاع رأي هنا، أو تقديرات انتخابية هناك، تأمل في أنّ خصمه الجنرال المتقاعد بيني غانتس يمكن أن يكسر الرقم القياسي.

وعلى طريقته، التي باتت مأثورة، سبق نتنياهو روّاد اليمين الإسرائيلي من أمثال مناحيم بيغن وإسحق شامير في قطع الخطوة «التاريخية» واجتياح الخليل؛ ليس من دون تذكير العالم، وناخبي الكيان أوّلا، أنه باق على هدي الدكتور جيكل والمستر هايد، حسب تعبير المعلّق الإسرائيلي توفا لازاروف؛ وآن الأوان لكي يسقط عنه هذا القناع أو ذاك، وربما الأقنعة جمعاء.

عن صحيفة القدس العربي اللندنية

0
التعليقات (0)