مقالات مختارة

مصر: انفجار معهد الأورام ووطن للبيع لأنه «فقير قوي»؟!

محمد عبد الحكم دياب
1300x600
1300x600

لا تكل الرئاسة ولا تمل من تكرار عبارة «إحنا بلد فقير قوي»، وتهدف لترسيخ ذلك اللغو في ذهنها وذهن رجالها، وإهدار قيمة وطن من أجل بيعه بأبخس الأسعار. الرئاسة دائما تردد «ما عنديش حاجة ببلاش واللي عاوز حاجة يدفع ثمنها»، وكأنها تدير كشك سجاير. والمواطن المصري؛ سواء كان من الطبقة الوسطى أو من «الفقرا قوي» يدفع أعلى الضرائب عالميا، أما أثرياؤه فهم مدللون ويأخذون ولا يدفعون، وهم الأولى بالرعاية. وفي المقابل لا يحصل المواطن على خدمات ذات قيمة، وكل خدمة يدفع ثمنها مقدما؛ شهادات ميلاد، وشهادات وفاة، وبطاقة شخصية (رقم قومي)، وتوكيلات شهر عقاري، ورخص قيادة، وجوازات سفر، وغيرها، تضاعفت رسومها عدة مرات، وأضحت باهظة التكاليف، وآخرها رسوم جديدة على السفر بالطائرات؛ أضيفت إلى ضرائب عالية مقررة على السفر بالجو، وسأضرب مثلا بنفسي دفعت في آخر زيارة للقاهرة في نيسان/إبريل الماضي مبلغ 690 جنيها إسترلينيا، وقيمة التذكرة 407 جنيهات إسترلينية، والضريبة المدفوعة 230 جنيها إسترلينيا، ونسبتها تتجاوز 56% وهناك رسوم أخرى في الطريق قبل نهاية العام.


وما تحكيه الرئاسة وما ينطق به الإعلام الرسمي وشبه الرسمي؛ أغلبه لغو وبقيته مبالغات؛ أقول هذا وأنا مشدود إلى كارثة الانفجار الذي وقع بمحيط «معهد الأورام» التابع لجامعة القاهرة؛ فيما بين الحادية عشرة مساء ومنتصف ليل الأحد (04/ 08/ 2019)، في منطقة شديدة الحيوية وبالغة الأهمية، وسُمع دويه الشديد في معظم أنحاء القاهرة، وراح ضحيته 20 قتيلا، وأكثر من 30 مصابا، وانقلب المشهد في قلب العاصمة رأسا على عقب، واستمر الناس حيارى لساعات طوال؛ وبعد خمس ساعات بدأت البيانات المتضاربة، والمعلومات المتناقضة، وهذا شيء ليس بالغريب؛! ونجدها فرصة لتقديم واجب العزاء لأسر الضحايا، وخالص التمنيات بالشفاء العاجل للمصابين.


تداخلت الروايات الرسمية وغير الرسمية، وبقيت الصور الثابتة والمتحركة زادا لا يشبع أحدا، واستمر الإعلام الحكومي والخاص في تيه، وقدم الإعلام الأجنبي ما لديه ولم يكن كافيا. وبعد مرور أكثر من 15 ساعة على الانفجار صدر بيان وزارة الداخلية؛ ليثير تساؤلات عن المكان والجهة المستهدفة من الانفجار، وعن التلكؤ عن مواكبة تطورات الحادث، وتَغَيُّر الرواية من سيارة مسرعة عكس الاتجاه واصطدامها بثلاث سيارات أخرى نجم عنها الانفجار؛ تغيرت الرواية بأنها عمليه إرهابية نفذتها جماعة «حسم»، حسب بيان وزارة الداخلية، وظهر في فيديو المراقبة الخاصة بمعهد الأورام أن السيارة لم تكن «مسرعة»، ومن المعتاد توظيف هذه الأحداث لإشغال الرأي العام بعيدا عن مشاكل البلد المستعصية، وعن انفلات الأسعار، الذي لا يجد من يلجمه.


ونترك كل ذلك مشاركة للرئاسة والحكومة فرحتهما بـ«الإنجازات غير المسبوقة»، ونبدأ بتفريعة قناة السويس، أول مشروعات الرئاسة؛ الممول بكامله من جيب المواطن المصري ومدخراته؛ بفضل حماسه وروح المعنوية التي ارتفعت لعنان السماء بفضل ثورة 25 يناير العظيمة، ولمن لا يعرف؛ تكلفت التفريعة 30 مليار جنيه من أصل 64 مليارا إجمالي المبلغ المقدم من «الشعب الممول» في ثمانية أيام فقط في 2014؛ كانت المدة المحددة لجمع أقل من نصف ذلك المبلغ، ويمثل القيمة الحقيقية للتكلفة؛ كانت المدة المقررة ستة شهور، وما تم تحصيله أكثر من ضعف التكلفة، وحتى كتابة هذه السطور لم يسمع أحد شيئا عن مصير الـ34 مليار جنيه المتبقية؟!


وبدلا من تقدير ذلك الاندفاع الوطني؛ أعلنت الرئاسة أن «قناة السويس الجديدة» هديتها للعالم، وليس هدية «الشعب الممول» لوطنه وللعالم، وكان الجزاء الحرمان من حق ملكية القناة الجديدة، وبدلا من اعتبار مشاركاته ومساهماته سندات وأسهما ملكية، وبداية فتح باب شريف ونظيف للتنمية؛ يبعد مصر عن منظمات الدمار المالي؛ كـ«صندوق النقد الدولي» وغيره، وكان من الممكن اعتبارها بادرة وطنية لإحياء تراث لم يمح من ذاكرة التاريخ بعد؛ مثل تلك التي وقفت وراء مشروع «بنك مصر» عام 1920 بتأثير توابع ثورة 1919، وبفضل الاقتصادي الوطني الراحل طلعت حرب باشا، وما قام به البنك من تأسيس شركات وصناعات؛ غطت مجالات الغزل والنسيج، والتأمين، والنقل، والطيران، والسينما، ودعم أعمال مصرفية واستثمارية أخرى، وامتلاك أنصبة في أسهم 159 شركة؛ للتمويل والسياحة والإسكان والزراعة والغذاء، والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات. وعلى الطريق نفسه سارت ثورة يوليو 1952 وبنت أول مجمع للحديد والصلب في الشرق الأوسط بمنطقة التبين بحلوان، وتم تمويله بالاكتتاب الشعبي، عام 1954 بقرار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.


وأما العاصمة الإدارية الجديدة؛ تستحق اسم «المستوطنة الإدارية الجديدة» للطبقات الحاكمة وأتباعها وكبار موظفيها، وهي طبقات خشنة وقاسية ومتوحشة؛ لا تتوقف عن «التأديب والانتقام والتضييق»، وجاء تعريفها في ديباجة المشروع على النحو التالي: «مدينة إدارية اقتصادية جديدة، تكون عاصمة حديثة تتفق مع مفردات العصر، وتقع ضمن إقليم القاهرة الكبرى، ما يساهم في توسيع الحيّز العمراني، وتفريغ العاصمة الحالية من التكدس والازدحام، بالإضافة إلى خلق منطقة جديدة جاذبة للاستثمارات». وتتشابه في الوظيفة والدور مع «المنطقة الخضراء» ببغداد؛ حيث وفرت البيئة الآمنة لرجال الاحتلال الأمريكي وأذرعته المحلية.


والطبقة الحاكمة المصرية التزمت بالمعادلة المشار إليها سابقا، وتُطبق على شباب ورموز ثورة 25 يناير 2011، وهي لا تعرف عراقة القاهرة ولا قيمتها التاريخية ولا الحضارية والثقافية، وكان الأولى بها إذا كانت جادة أن تعيد للقاهرة بهاءها وألقها، بدلا من «مستوطنة» تخجل أمام رسوخ «أم العواصم» وأم الدنيا، التي تنتظر من يقدرها ويضعها في مآقي العيون بثقافته الرفيعة، وأفقه الواسع، ووعيه التاريخي العميق.


وهذه «المستوطنة» تُقام على مساحة 170 ألف فدان، وتبلغ استثمارات المرحلة الأولى 45 مليار دولار، وتنتهي هذا العام (2019)، ويتوقع الخبراء وصول تكلفتها النهائية لأكثر من 300 مليار دولار، وهذه مبالغ فلكية تصرف بلا عوائد تغطيها؛ تزيد من معدلات التضخم الصاروخية، وتُفاقم أعباء الديون، ومعضلة تسديد ديونها، هو الاعتماد على بيع وتبديد تراث لا يُقدر بثمن؛ قلاع تاريخية، وقصور رسمية وأحياء عريقة، لشركات إماراتية وكويتية وسعودية وأجنبية، وأمامنا «مثلث ماسبيرو» نموذجا، وبحسب ما جاء في «المصري اليوم»، فقد ضخ الملياردير الإماراتي محمد العبار استثمارات جديدة لحساب شركتي «إيجل هيلز وإعمار مصر»؛ لبناء أبراج سكنية بمدينة العلمين الجديدة بالساحل الشمالي. وإعادة بناء «مثلث ماسبيرو» في قلب القاهرة، ويشمل إقامة برج عملاق علي النيل؛ في مناطحة لمبنى التليفزيون الرسمي، ولمبنى وزارة الخارجية. وذكر الخبير الاقتصادي عبد النبي عبد المطلب، لموقع «عربي بوست» أن المخطط هو تحويل مثلث ماسبيرو إلى ما يشبه «الريفييرا»، وستكون حكرا على أثرياء الأثرياء، ويعتقد أنه لن يسمح لأحد بمجرد المرور في شوارعها، وليس استغلالها في البيع والشراء كما هو الآن.


وكلها بقروض زادت عن حدها، و«صندوق النقد الدولي» وباقي الدائنين يتربصون ويتحينون الفرصة.

 

عن صحيفة القدس العربي اللندنية

0
التعليقات (0)