كتاب عربي 21

تونس بعد رحيل الباجي؟

محمد هنيد
1300x600
1300x600
هذا هو السؤال الأبرز الذي يطرحه كل متتبع للشأن التونسي؛ باعتباره شأنا عربيا لا باعتباره فقط شأنا محليا. صحيح أن جزءا كبيرا من السؤال تمت الإجابة عنه ساعات بعد انتقال الرجل إلى مثواه الأخير، عندما تحركت مؤسسات الدولة وانتقلت السلطة بسلاسة عربية نادرة؛ تحركها سلطة القانون وتدفعها قوة الدستور، وتنفست البلاد الصعداء وسقطت أحلام من راهن على الفوضى وعلى الانقلابات في حال شغور منصب الرئيس، لكن هل يعني ذلك أن البلد خرج من عين العاصفة؟

السبسي أو رجل التوافق

صحيح ما قيل عبر مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة في مشرق البلاد العربية، من أن الرئيس التونسي كان صاحب تصريحات مربكة، سواء ما تعلق بأحكام الميراث أو مسألة المساواة بين الجنسين، أو موقفه من قانون العزل السياسي، أو غيرها من المواضيع الحساسة الصادمة أحيانا.. كل هذا صحيح، لكنه حكم لا يُنصف الرجل، ولا يعطيه حقه من الحكم الموضوعي لمسيرة تمتد أكثر من نصف قرن من العمل في صلب أجهزة الدولة ونواتها الصلبة.

عمل الباجي قايد السبسي في حكومة البايات وفي حكومة بورقيبة وفي نظام بن علي، عندما كان رئيسا للبرلمان، قبل أن يلفه النسيان وتضعه الدولة العميقة جانبا. فهو من هذه الناحية جزء لا يتجزأ من البناء الاستبدادي لنظامي بن على وبورقيبة، ويتحمل بعضا من المسؤولية في كونه عنصرا من عناصر النظام القديم. لكنه يعتبر من ناحية أخرى مكونا أساسيا من المشهد الثوري؛ لا بأنه أحد عناصره الفاعلة، لكن بما هو فاعل سياسي في مرحلة انتقالية حرجة كانت فيها البلاد على حافة الهاوية.

نجح الباجي في تكوين محور سياسي صلب مع خصومه السياسيين من الإسلاميين خاصة، وحافظ على مبدأ التوافق الذي ميز المرحلة الانتقالية السابقة ولا يزال. كما رفض الرجل كل اقتراحات الانقلاب على التوافق؛ وكل الإغراءات التي طرحها بعض مستشاريه من أجل تصفية خصومه الإسلاميين والانفراد بالسلطة. كان الخيار السياسي الاستراتيجي الذي حافظ عليه الرجل إلى حين وافاه الأجل؛ حبل النجاة الذي منع البلاد من السقوط في الفوضى ومن الالتحاق بركب الثورات الفاشلة في ليبيا وسوريا ومصر. كما التزم الرجل بسلطة الدستور، ولم يعمل على تجاوزه رغم سلطات الرئاسة المحدودة، والتي لم تُبق له على نفوذ أو سلطة كبيرة مثلما هو حال سلفيه بورقيبة وبن علي.

كل هاته الخصال تجعل من الرجل، رغم كله تاريخه السابق للثورة، فاعلا توافقيا وعنصرا من عناصر الاستقرار السياسي الذي كانت البلاد في أمسّ الحاجة إليه خلال السنوات المنقضية.

مستقبل الخارطة السياسية

ترك رئيس الجمهورية حزبه (نداء تونس) منقسما بعد أن تكونت حوله فواعل منافسة تحمل نفس المرجعية السياسية، مثل حزب "تحيا تونس" الذي يرأسه رئيس الحكومة والذي خرج من رحم النداء. كما نشأت أحزاب أخرى شبيهة مثل "الحزب الدستوري" و"قلب تونس"، وغيرها من الدكاكين الحزبية التي تحمل نفس المرجعية، لكنها تبقى هامشية بسبب تأسسها على مبادرات مالية تعود ملكيتها إلى رجال أعمال نافذين وإلى سفارات عربية وأجنبية، كما أنها أحزاب تفتقد إلى الأرضية الجماهيرية، وتفتقد خاصة إلى المشاريع السياسية الجدية وإلى خارطة طريق اقتصادية أو إلى مشروع وطني قد يمنحها تعاطف الناخبين.

إضافة إلى ذلك، تعاني هذه الأحزاب، كغيرها من أحزاب المعارضة والسلطة، من أزمة الفردانية ومشكلة الصراع على الزعامة والنفوذ، وهو الأمر الذي يفسر التصدعات التي تعاني منها والتي لا تكاد تتوقف. تتحرك هذه الأحزاب حسب منطق الغنيمة ولا تعمل بمبادرات ذاتية، بل تُملى عليها خطوطها السياسية إملاء من قبل رجال الأعمال؛ المرتبطين هم أنفسهم بقوى خارجية تسعى إلى بسط نفوذها في تونس خلال المرحلة القادمة.

في الجهة المقابلة، لا يعتبر الأمر أحسن حالا سواء بالنسبة لحزب حركة النهضة الإسلامي أو بالنسبة لبقية الأحزاب المحسوبة على التيار الثوري. فقد برزت للعلن مؤخرا تصدعات وخلافات كبيرة داخل النسيج الإسلامي بسبب ما يُروج من سيطرة زعيم الحركة على القرار السياسي داخلها وتفرده بالرأي، وهو أمر يزيد من حساسية المرحلة بالنسبة للإسلاميين الذين يراهنون بقوة على التحالف مع مكونات النظام القديم من أجل البقاء في السلطة.

أما أكبر الخاسرين من المشهد السياسي التونسي؛ فهي الأحزاب المحسوبة على الثورة من غير الاسلاميين الذين يملكون قواعد أكثر انضباطا من غيرها. لقد فشلت الأحزاب الثورية في التكتل وفي تكوين جبهة واحدة يمكنها أن تشكل كتلة تستطيع منافسة الإسلاميين والنظام القديم معا، بسبب صراع على الزعامة وعلى المناصب. لقد كان التيار الثوري، ممثلا في "حزب التيار الديمقراطي" و"حراك تونس" و"المؤتمر من أجل الجمهورية" و"حركة وفاء"، وغيرها من الأحزاب؛ قادرا على اكتساح المشهد السياسي التونسي لو توفرت لقيادييه الجرأة على التنازل، والشجاعة على تغليب المصلحة الجماعية على المصلحة الفردية. لكن ذلك لم يحدث، فانكسرت أغلب هذه الأحزاب ولم تعد اليوم تمثل شيئا على الساحة السياسية. الاستثناء الوحيد هو حزب التيار الديمقراطي الذي عمل على بناء قواعد حزبية في الجهات، ولم يعمل أصحابه على تلميع صورتهم الشخصية والمراهنة عليها ولو كلفهم ذلك انهيار الحزب وتفتته، بل تحركوا بين الغايتين.

أما الأحزاب الأيديولوجية الكلاسيكية مثل الأحزاب الشيوعية اليسارية ممثلة في "الجبهة الشعبية" أو حركة القوميين العرب، ممثلة في حزب "حركة الشعب". فقد فقدت رصيدها الشعبي، ولم تعد الشعارات التي ترفعها تأتي أكلها بعد أن ثبت بالدليل والبرهان أنها كانت جزءا من النظام القديم وحارسا له. كما أن وقوفها ضد الثورات العربية في سوريا وليبيا ومصر ومساندتها للطغاة هناك؛ قد أسقطت ما بقي لها من رصيد شعبي لا يُذكر.

الواقع الجديد

كل هذا المشهد السياسي المختزل يقع وسط وضع اجتماعي واقتصادي متفجر؛ بسبب انهيار القدرة الشرائية وتراجع سعر العملة وهبوط كبير في مختلف قطاع الخدمات الأساسية، من نقل وصحة وتعليم. هذا الواقع الجديد سيؤثر حتما على العملية الانتخابية بعد أن أصبح الوضع العام يتميز بفقدان الثقة في الفاعل السياسي والحزبي، مما قد يقوى رصيد المقاطعين للعملية الانتخابية برمتها.

ليس الصراع السياسي في تونس اليوم صراع برامج ومشاريع وأطروحات؛ بقدر ما هو صراع رموز ومرجعيات ترى لنفسها الأحقية بالسلطة دون غيرها، ودون رصيد يذكر إلا بعض الشعارات الرنانة والنويا شبه الحسنة والرقصات الإعلامية المدروسة بعناية. هو أيضا صراع عائلات ولوبيات وجهات حكمت البلاد بيد من حديد منذ أكثر من نصف قرن، وترى أنها الوريث الشرعي للسلطة والمال دون غيرها من الجهات التي تسبح فوق بحر من الثروات؛ كما تسبح كذلك فوق محيطات من الفقر والبطالة والتهميش والإقصاء والاحتقار.

لقد ظهر للعلن منذ الثورة مشهد جديد بعد أن خرجت الدولة العميقة من العمق إلى السطح، وصارت تتحرك في العلن، بعد أن انكشفت ملفات الفساد الضخمة التي كانت سببا في انهيار الدولة والاقتصاد؛ وفي منع التنمية وانتشار التطرف والإرهاب. هذا الواقع الحادث سيطرح على أصحاب السلطة الجدد معالجة فورية لسرطان الفساد المرعب؛ لأن قسما كبيرا من الأحزاب السياسية ومن مرشحي الرئاسة إنما هم في الحقيقة بيادق منظومة الفساد التي تسعى، عبر تزكيتهم وترشيحهم، إلى التفصي من المحاسبة والعقاب.

في ظل ضعف النظام السياسي التونسي، بما هو نظام برلماني هش لا يصلح لبلد خارج للتو من ثورة شعبية، وفي غياب مؤسسة رئاسية قوية لكن ملتزمة بنص الدستور، يبقى الوضع القادم غير ثابت النتائج والمخرجات. إن الفشل في تحقيق توازن صارم في المشهد السياسي وتوزيع السلطات بشكل يمنع مهازل سابقة، مثل مهزلة شراء نواب البرلمان، يشكل أكبر تحديات المرحلة القادمة.

إن صياغة عقد سياسي يقوم على توزيع عادل وثابت للسلطة يتأسس على عُلوية القانون والدستور من ناحية، وعلى إحداث سلطة رقابية محاسِبة من ناحية ثانية؛ هو الكفيل بإيقاف النزيف الوطني ووضع البلاد على المسار الصحيح.

هذا وغيره كثير سيجعل من تونس بوابة الديمقراطية العربية ومدخل الأمة نحو فضاء الحرية والعدالة والمسؤولية. رحم الله الباجي قائد السبسي.
التعليقات (1)
داء السرقة
الجمعة، 02-08-2019 10:24 م
لا أعلم إذا كان هناك مؤشر لقياس نسبة السرقة في العالم لكني متأكد إن شعوبنا قد تحصل على المرتبة الأولى بدون منازع .ستنجح ثورات شعوبنا و ستكون أول مادة (1) في دستورنا الجديد هي تحريم السرقة و معاقبة مرتكبيها أشد العقاب إنشاء الله