قضايا وآراء

لماذا نعرف الإيمان أكثر في الغربة؟

محمد ثابت
1300x600
1300x600
كُنَّا نتعجب من بعض أحداث التاريخ ظانين أن حدوثها أمر يشبه المستحيل إن لم يكن يساويه، كفريقين في وقت حرب وفتنة يتفقان على صلح، وفي غسق وظلمة الليل يقوم بعض المُنافقين بتأجيج وإلهاب الصراع بينهما حتى لتقوم المعركة وتتجدد بينهما من جديد. وكنا نقول ربما عن حق: إن في الأحداث ما هو مستور لم يصلنا.

وفي الغربة المُمتدة علمنا وعرفنا أن الأجواء الخانقة هي التي تصنع الأحداث البالغة الغرابة، لا العكس. فالحدث مهما كان لا يصنع الأزمة، وإنما تصنعها بجدارة وعن استحقاق الخيبة إثر الأخرى والفشل إثر الآخر؛ والتمسك والتذرع بأن الأعداء أقوى بمراحل، وإن الأفضل في هذه المرحلة مجرد التماسك وادعاء القوة؛ وإفشال المخططات القوية للمستأسدين المتربصين بالدرب بإيهامهم بتماسك واهم بائس لا يُسمن ولا يُبقي جائعين إلى الفعل المناسب.

وحينما تكون الأحداث أكثر التهابا من مجرد إدراك كنهها والتعامل معها على حقيقتها، فمن هنا يأتي الظلام وانفجار الآلام وزيغ الطرقات وتباعد الإنجاز، بل إنكار الشمس في ضحى النهار. ومن هنا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا الفاعلية، وأن المؤمن لا يفتأ ولا ينفك يُؤثر حتى إن هُزم وحاقت الهزيمة به من جميع النواحي والأرجاء.

في غزوة أحد وبعد ساعات من الهزيمة المريرة الناتجة عن مخالفة الرماة لأمر الرسول العظيم بعدم ترك الجبل وحماية ظهور الفرسان المسلمين، وإن رأوهم يتخطفهم الطير. وتحرك الرماة، والتف خالد بن الوليد قبل إسلامه، رضي الله عنه، وكانت الهزيمة، إلا أنه في اليوم التالي أمر الرسول العظيم الصحابة الكرام بالتجهز للعودة إلى ساحة المعركة، وألَّا يخرج معهم إلا الذين شهدوا أحدا، ولو كانوا جرحى أو شديدي الإصابة، حتى أن الصحابي الكريم كان يحمل أخاه الذي لا يقوى على السير ليبلغوا جميعا "حمراء الأسد"، إثباتا للكفار أنهم بخير وقادرين على ملاحقة الصراع بين الخير والشر، وأن المعركة مستمرة حتى ذلك الحين بالنقاط أو الجولات المتوالية، وليس بالضربة القاضية أو المعركة الواحدة!

لم يصب الصف من قبل بداء الكلام الكثير والبحث عن الأعذار؛ ولا الادعاء بأن العدو ليس من قبل لنا به، وأننا لن "ننهزم" له، وإنما سنظل نواصل المسير على الدرب ولو طالتنا الهزيمة بعد الأخرى، ولو فنيت كوادرنا في التيه وضاعت وماتت في عرض الصحاري؛ وكأن صفحة "صلح الحديبية" تم محوها من التاريخ، مع أن التراجع خطوة إلى الخلف أمر مطلوب حفظا للدماء والأعراض؛ حينما لا يستطيع الصف المؤمن الوصول إلى النصر الكامل المؤزر.

اخترع "القوم" في الغربة تحقيقا لمفهوم "بين.. بين" أي أن يحيوا في التيه ولا يهادنوا عدوا حتى حين، ولا يصالحوه حتى تشتد قواهم، وقبلوا على أنفسهم أن يظلوا في موقع كمثل الصحارى من المعارك دون عدو يواجهونه، ودون إعداد للقوى، ثم لاكوا الكلمات وزعموا أنهم منصورون بقوة الحق على الباطل وحده، ونسوا أو تناسوا أن الله لا يهدي ولا ينصر الحيارى أو الكسالى.

في الغربة الطويلة الممتدة علم صاحب الكلمات أن المواقف والاختبارات والنتائج ليست بالكلمات، وإلا فإن الجميع صلب صلد واثق من نفسه، ملتصق بالأرض، حينما يخص الأمر مجرد الكلمات لا الاحتكام للمواقف والتجارب الرائدة الكاشفة الحقيقية المثيرة المنيرة للطريق والدرب؛ فكم من هامات سامقة طويلة وكلمات مرجفة خطيرة؛ لكن إذا جاءت التجربة تراجع أولاء إلى الخلف، ولم يدركوا عميق وخطير ما هم مقبلون عليه، فأضاعوا أنفسهم وأثروا في خطى مَنْ خلفهم!

في الغربة من أفضل ما نتعلمه أن كل الحقائق العصية على التصديق أمام العينين يمكنها أن تبدو مجسدة بهدوء. فلا أعجب في الحياة من أن تكون مع مجموعة من الناس في ديار نائية، بعدما انسحبوا من معركة ضارية وانفردوا ببعضهم، مصممين أن ثأرهم لدى بعضهم البعض لا لدى عدوهم. وهكذا هي النار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله، وهذه هي أضغاث الأحلام التي لم نكن نأمل أو نحلم أو حتى نتمنى أن نحيا لنراها.

كل أحلامك يا هذا استودع منها، وتراها تذروها الرياح بقوة.. المخلصون يتلاشون من حولك، إلا أفراد يعدون على أصابع اليد الواحدة، وتبعات الأحداث تقول لك: "قل الحق تلقي بنفسك في المجمرة، بعت من أجلهم الدنيا فباعوك لدى أقرب منحنى. تلك قسمة ونهاية ذلك الذي لم يختبر البشر جيدا؛ ظن الخير فيهم وتناسى أن الطرق تلتف وتتشعب برغمنا، وأن من الناس وفيهم من لا تستطيع التجاوب معه أو حتى محادثته لقناعات لديه لا آراء. ومن ذا الذي يستطيع تغيير القناعات لدى غيره بخاصة إذا اختمرت فصارت مادية؟!".

في الغربة يا صاح الإيمان يتجسد أمامك فلا ينقصك عليه دليل ولا برهان، فإن كان الكفر في اللغة تغطية الإيمان في النفس والفطرة؛ فإن الغربة كشف لعورات النفس والفطرة على حقيقتها كما لا ينبغي أن تكون، فإن عز حضوره سبحانه وتعالى في النفوس لدى البعض، فمَنْ ذا الذي يستطيع مقاومة طوفان النخاسة في المبادئ قبل الأموال؟

حفظ الله الأحباب الذي يبيعون الدنيا حيال مُثلهم.. فهؤلاء هم الزاد ونهاية المطاف الذي نتمنى أن نلقاه!
التعليقات (2)
عبد الحليم الحزين
الجمعة، 02-08-2019 03:02 م
بما أن الكاتب يقوم عادة بنسخ /لصق لقصيدة ، فمن الممكن أن يأتي بيت منها معكوس الصدر و العجز و هذا ما حصل مع الاستاذ همام ، فالبيت الأخير الصحيح هو (ولأنفضنّ يديَّ يأسًا منكمُ *** نَفْضَ الأنَامِلِ مِنْ تُرَابِ المَيّتِ) ، فاقتضى التنويه .
همام الحارث
الجمعة، 02-08-2019 11:35 ص
لا بدَ أن الأستاذ محمد ثابت سيشاركني الرأي في شأن من وصفهم " بعت من أجلهم الدنيا فباعوك لدى أقرب منحنى" فهؤلاء لا يمكن اعتبارهم أصدقاء أو أخلَاء بل إن الكلب أشد وفاءً منهم لصاحبه من البشر . لا معنى لصديق لا يقف معك وقت الضيق و الأجدر نعته على أنه من المعارف مهما طالت فترة مكوثك معه. صحيح أن قدماء العرب اعتبروا "الخلَ الوفي" أحد المستحيلات ، لكن من تهذب بالعقيدة الصافية و اتقى الله سيكون حتماً في خانة الوفاء في الدنيا مع بقاء الصداقة في الآخرة إذ يقول تعالى " الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ". مهما يكن من أمر ، هذه قصيدة لشاعر حكيم هو " الشريف الرضي" أعجبني فيها تشخيصه للداء و وصفه للدواء : قُلْ للّذينَ بَلَوْتُهُمْ، فَوَجَدْتُهُم *** آلاً وغيرُ الآل ينقَع غُلَّتي . أعددتكمْ لدفاع كلِّ مُلمّة *** عَنّي، فكُنْتُمْ عَوْنَ كلّ مُلِمّة ِ . وَتَخِذْتُكُمْ لي جُنّة ً فكَأنّمَا *** نظر العدو مقاتلي من جُنّتي . فلأرحلنَّ رحيلَ لا متلهف *** لِفِرَاقِكُمْ أبَدًا وَلا مُتَلَفِّتِ . نَفْضَ الأنَامِلِ مِنْ تُرَابِ المَيّتِ .*** ولأنفضنّ يديَّ يأسًا منكمُ لا يوجد حل منطقي سوى المفارقة لمثل هؤلاء إذ أن من نكد الدنيا رؤية هذه الأشكال.