قضايا وآراء

الإرهابي والمتاجر بالإرهاب والمبيّض له ملةٌ واحدة

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
رغم أن تونس ليست هي البلد الوحيد الذي يعاني من ظاهرة الإرهاب المعولم، فإنّ العديد من الدلائل والقرائن تدفع بالدارس الموضوعي للشأن العام إلى "تَونسة" آليات الفهم والتحليل، أي تدفعه إلى مقاربة سياقية ومتعددة المداخل، حتى لا ينزلق وراء التفسيرات المبتسرة والمحكومة بمحددات أبعد ما تكون عن العلم، بل عن المصلحة الوطنية العليا، رغم كل الادعاءات والمزايدات. فالغالب على السجال العام هو التسييس والأدلجة وخدمة الأجندات الحزبية التي تحوّلت بفعل التراكم والهيمنة على المنابر الإعلامية؛ إلى عائق من أكبر العوائق أمام الفهم وبناء سياسات فعّالة لمواجهة الإرهاب، سواء في مستوى المقاربة النظرية أو في مستوى العمل الميداني.

وكي لا نكون جزءا من هذه السجالات والأطروحات العقيمة واللاوظيفية، فإننا سنكتفي في هذا المقال ببعض الملاحظات الوصفية، وببعض الاستنتاجات المنطقية التي لا يعاندها إلا مكابر أو جاهل. لقد شهدت تونس اليوم عمليتين انتحاريتين متزامنتين، استهدفت الأولى منهما سيارة أمنية في أكبر شوارع العاصمة (شارع الحبيب بورقيبة)، وأدت إلى استشهاد أمني وإصابة عون أمن وثلاثة المدنيين بجروح متفاوتة الخطورة، وهلاك منفذ العملية الانتحارية. أما العملية الانتحارية الثانية، فاستهدفت إدارة الشرطة العدلية بمنطقة القرجاني في ضواحي العاصمة، وأسفرت عن إصابة أربع أمنيين بجروح متفاوتة الخطورة.

بصرف النظر عن الجهات المحلية أو الإقليمية أو الدولية التي تقف وراء هاتين العمليتين الإرهابيتين (فأغلب أصابع الاتهام تتجه إلى المحور الإماراتي السعودي المعروف بعدائه للثورات العربية، وبمحاولاته المتكررة لإنهاء مسار الانتقال الديمقراطي في تونس)، وبصرف النظر عن المستفيدين سياسيا من العمليتين "الانغماسيّتين" اللتين نستبعد أن يكون من نفذهما "ذئبان منفردان" لا يخضعان لقيادة أو لغرفة عمليات واحدة (ورغم أنّ الاتهام والتجريم من مشمولات القضاء، فإن من حقنا أن "نشتبه" في تواطؤ بعض القوى السياسية في هاتين العمليتين، حتى إذا لم توجد دلائل قانونية تؤكد تورطها المباشر)، وبصرف النظر عن العلاقة الممكنة لهاتين العمليتين باندحار قوات المشير حفتر في ليبيا وحاجتها إلى تخفيف الضغط عنها بتأزيم الوضع في تونس، بصرف النظر عن ذلك كله، فإنّ تزامن هاتين العمليتين وتوقيتهما (تعكر الحالة الصحية لرئيس وارتفاع بعض الأصوات المنادية بتأجيل الانتخابات التشريعية والرئاسية المزمع إجراؤها نهاية هذا العام) يؤكد مخاوف التونسيين الذين تعودوا بمنطقهم "العفوي" أن يتوجسوا خيفة من الفترات التي تسبق الاستحقاقات الانتخابية، وهو خوف مبني على استحضار عمليات إرهابية سابقة ساهمت إلى حد كبير في عودة المنظومة القديمة وحلفائها إلى واجهة السلطة بعد انتخابات 2014.

إن خطورة هاتين العمليتين تتضاعف عندما نستحضر الحالة الصحية الحرجة لرئيس الدولة، ولرئيس مجلس النواب الذي سيخلفه في حالة شغور المنصب، لا قدر الله، كما أن البعد السياسي "المشبوه" والكارثي لهاتين العمليتين يتأكد عندما نتذكر عدم إرساء المحكمة الدستورية، وعجز المنظومة القديمة عن التوحد والخروج من حرب الشقوق والزعامات لبناء قطب سياسي يواجة حركة النهضة خلال الاستحقاق الانتخابي القادم. ولكنّ الخطر الأكبر يظل هو التعاطي الإعلامي غير المسؤول مع هذه الأحداث الإرهابية والسياسية، فأغلب الخطابات المهينة على المنابر الإعلامية التقليدية هي أقرب ما تكون إلى "الحليف الموضوعي" للإرهاب. ذلك أنها تساهم في إنجاح الاستراتيجيات الإرهابية من حيث تدعي مقاومتها: ضرب الوحدة الوطنية، وتخوين الشركاء في الوطن والمصير وشيطنتهم لتغيير نوايا التصويت والتلاعب بالوعي السياسي للتونسيين، والمتاجرة بدماء ضحايا الإرهاب ومآسيهم لخدمة أجندات حزبية وسياسات إقليمية معادية للانتقال الديمقراطي وللشراكة بين العلمانيين والإسلاميين، والتحريض على انتهاك الحريات الفردية والجماعية بدعوى محاربة الإرهاب، والحث على التقاتل بين الأهالي بالترويج لخطابات الضغينة وتغذية الصراعات الهووية.. إلخ.. إلخ.

ولا شك عندنا في أن الإرهاب لن يجد حليفا موضوعيا أفضل من أغلب المهيمنين على تشكيل الرأي العام. فالإرهاب يريد إشاعة الخوف وتفتيت الوحدة الوطنية، والإرهاب يسعى إلى ضرب "الاستثناء التونسي" في ظل نجاح الثورات المضادة في أغلب بلدان الربيع العربي، كما أن الإرهاب يهدف أيضا إلى ضرب مسار الانتقال الديمقراطي والعودة بتونس إلى مربع 13 كانون الثاني/ يناير2011 ، بل إلى مربع 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987 إن استطاع إلى ذلك سبيلا، وهي استراتيجية لا يمكن أن يُكتب لها النجاح إلاّ بتواطؤ الكثير من النخب الذين يرفضون الاعتراف بـ"القطيعة" السياسية التي أحدثتها الثورة التونسية، وما زالوا يفكرون بمنطق انقلابي لا يجد حرجا في الاستعانة بالمحور الإماراتي- السعودي وغيره لإدخال تونس إلى بيت الطاعة، على مذهب آل سعود وآل نهيان، بل على مذهب وكلاء منظومات النهب والإذلال المُعولمين.


ورغم تضارب الأنباء حول وفاة الرئيس التونسي وعدم صدور أي بيان رسمي يؤكد الخبر، فإن توقيت العمليتين الإرهابيتين لا يمكن أن يُفهم إلا بربطه بالحالة الصحية الحرجة للسيد الباجي قائد السبسي، بل الحالة الصحية الحرجة لرئيس مجلس النواب الذي من المفترض أن يقود الفترة التي تسبق الدعوة الى الانتخابات في حالة شغور منصب رئيس الدولة (وهي فترة تتراوح حسب الدستور بين 45 يوما و90 يوما).

لقد اختارت غرفة العمليات التي تقف وراء العمليتين هذا التوقيت بالذات لتعيد تشكيل المشهد السياسي التونسي برمته، وضرب الانتقال الديمقراطي في مقتل. ففي صورة تأكد خبر وفاة رئيس الجمهورية لا قدر الله، فإن البلاد قد تدخل في آزمة سياسية غير مسبوقة، خاصةً مع عدم إرساء المحكمة الدستورية؛ التي ينص الدستور في فصله الرابع والثمانين على ضرورة اجتماعها في حالة الشغور الوقتي لمنصب الرئيس.

مهما كانت الأطراف التي تقف وراء العمليتين الإرهابيتين هذا اليوم، ومهما كانت حقيقة الوضع الصحي لرئيس الدولة، فإن الاستراتيجيات الإرهابية لا يمكن أن تنجح إلاّ بتواطؤ مكشوف أو خفي في الجبهة الداخلية، وهو تواطؤ يجب التعامل معه باعتباره خطرا وجوديا يهدد الجمهورية الثانية. فالخطابات السودواية التي تعمل على إشاعة الرعب بين الأهالي، والتحريض على التقاتل بين التونسيين، واستثمار الخطر الإرهابي للتحكم في نوايا التصويت أو لضرب مسار الانتقال الديمقرطي برمته، وهيمنه الدجالين والأدعياء ومنتحلي الصفات على المنابر الإعلامية، كل ذلك هو شرط ضروري لنجاح الإرهاب في تحقيق غاياته الاستراتيجية، وهو ما يعني أن على التونسيين، أفرادا ومنظمات وهيئات دستورية، أن يتجندوا لفضح هذا التحالف الموضوعي بين الإرهابيين والانقلابيين.

ولن يكون هناك "استثناء تونسي" حقيقي إلا في صورة نجاح التونسيين (بيسارييهم وقومييهم وإسلامييهم ودستورييهم)؛ في تجاوز الأزمات الدورية التي تسعى بعض القوى الإقليمية والدولية إلى جرّ البلاد إليها بغية ضرب مسار الانتقال الديمقراطي. ورغم صعوبة هذا المشروع الوطني، فإنه يبقى هو المخرج الأقل كلفة ماديا وبشريا لتجنيب البلاد سيناريوهات الاحتراب الأهلي أو عودة الاستبداد.

ولا شك عندنا في أهمية الهيئات الدستورية (خاصة الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري، والهيئة العليا المستقلة للانتخابات)، وأهمية الشركاء الاجتماعيين (الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الأعراف) وباقي الفاعلين في الحقل المدني؛ في تجنيب البلاد المهالك التي تسعى الاستراتيجيات الإرهابية المعولمة (والمستفيدين منها محليا) إلى جر البلاد إليها. ونحن على ثقة من أنّ أعداء الله والإنسان لن ينجحوا في ضرب الاستثناء التونسي، وإن زىّن لهم مرتزقتهم خلاف ذلك.
التعليقات (0)