قضايا وآراء

أمل دنقل في ورشة البحرين

محمد خير موسى
1300x600
1300x600
تحتَ سياط الشّمس اللّافحة حطّت به النّاقة؛ عفوا الطّائرة، على أرض البحرين، بجبهته السّمراء وشعره المتناثر وتجاعيد وجهه التي ترسم في وجهه خارطة لا تقلّ بؤسا عن خارطة الوطن العربيّ؛ حملَ أمل دنقل حقيبته، والتفتَ إلى مرافقه المشغول بحزم الأمتعة وسأله: أين ستكون المنامةُ اليوم؟! فأجابه مستغربا: أنت في المنامة يا سيّدي!!

عقّب أمل دنقل: أقصد مكان النّوم، فقال المرافق في الفندق حيثُ تُعقَد الصّفقة؛ أقصد الورشة.

في الطّريق إلى الفندق كانَ أمل دنقل يرنو إلى الصّحراء التي كانت طاهرة في زمن مضى، شعر بحاجة ماسّةِ إلى "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"، وخاطبها بصوته المختلط بالدّمع:

أسألُ يا زرقاءْ..
عن فمكِ الياقوتِ عن، نبوءة العذراءْ
عن ساعدي المقطوع.. وهو ما يزال ممسكا بالراية المنكَّسة
عن صور الأطفال في الخوذات.. ملقاة على الصحراء
عن جاريَ الذي يَهُمُّ بارتشاف الماءْ..
فيثقب الرصاصُ رأسَه.. في لحظة الملامسة!
عن الفم المحشوِّ بالرمال والدماء!!
أسألُ يا زرقاء..
عن وقفتي العزلاء بين السّيف.. والجدارْ!
عن صرخة المرأة بين السَّبي. والفرارْ؟
كيف حملتُ العار..
ثم مشيتُ؟ دون أن أقتل نفسي؟! دون أن أنهار؟

في الصّباح نزل إلى المطعم، أكل لقمة ثمّ أزاح الصّحن من أمامه، فسأله مرافقه مستهجنا؛ ما الخطب، فأجابه:

كلَّ صَباحْ..‏
أفتحُ الصّنبورَ في إرهاقْ
مُغتسِلا في مائِه الرقْراقْ
فيسقُطُ الماءُ على يدي.. دَمَا!
وعِندمَا..
أجلسُ للطّعام.. مُرغمَا
أبصرُ في دوائِر الأطباقْ
جماجِما..
جماجِمَا..
‏ مفغورةَ الأفواهِ والأَحداقْ!!

في القاعة التي انتصب كوشنير على سطحها الزّجاجيّ الأملس، وتساوى علوّ حذائه مع رؤوس الجالسين، كان أمل دنقل يقفُ على الباب متلصّصا، وعندما افتُتحت الجلسة اعتصر دنقل ألما قائلا:

دقّتِ الساعةُ القاسيةْ
وقفُوا في ميادينها الجهْمةِ الخَاويةْ
واستداروا على دَرَجاتِ النُّصُبْ
شجرا من لَهَبْ
تعصفُ الريحُ بين وُريقاتِه الغضَّةِ الدانيةْ‏
فَيئِنُّ: "بلادي.. بلادي"
"بلادي البعيدةْ!"
دقت الساعةُ القاسيةْ
انظروا.. هتفَتْ غانيةْ
تتلوّى بسيّارة الرقَمِ الجُمركيّْ

أغمضَ دنقلُ عينيه اللّتين تعبتا من إبصار وجوه الدّناءة الرّسميّة القبيحة، فتراءت له صورةُ الرّئيس الذي قضى منذ أيّام شهيدا، فقال له: لماذا رحلتَ الآن؟ وأينَ أنت؟!

فجاءه الجواب:

من قال "لا" في وجه من قالوا "نعمْ"
من علّم الإنسان تمزيقَ العدمْ
من قال "لا.. فلم يمُت
وظلّ روحا أبديّة الألمْ!
معلّقٌ أنا على مشانق الصّباحْ
وجبهتي - بالموت - محنيّةْ
‏ لأنّني لم أحنِهَا.. حيَّةْ!

فتحَ عينيه ليجد فوق رأسِه شابّا يحمل في عينيه قهر الكون وألمَ البحار، سأله: وماذا سيكون بعدَ هذه الجلسة الصّفقة؟، فأجابه دنقل:

تقفزُ الأسواق يومين..
وتعتاد على "النّقد" الجديدِ
تشتكى الأضلاع يومين..
وتعتادُ على السّوط الجديدِ
يسكتُ المذياع يومين
ويعتاد على الصّوت الجديدِ
وأنا منتظرٌ.. جنب فراشكْ
جالسٌ أرقب في حمّى ارتعاشكْ
صرخة الطفل الذي يفتح عينيه..
على مرأى الجنودِ!‏

عندها انقضّ عليه الشّاب وأمسكه بتلابيبه وهزّه هزّا عنيفا وهو يصرخ في وجه، علامَ تجلسُ هنا تتلصّصُ عليهم كالنّساء وهم يبيعوننا؟ ألستَ أنت القائل:

أيُّها الواقِفونَ على حافّةِ المذبحةْ
أَشهِروا الأَسلِحةْ!
سَقطَ الموتُ؛ وانفرطَ القلبُ كالمسبحَةْ
والدّمُ انسابَ فوقَ الوِشاحْ!
المنَازلُ أضرحَةْ
والزنازنُ أضرحَةْ
والمدَى.. أضرِحةْ
فارفَعوا الأسلِحةْ

‏امتشقَ أمل دنقل غضبه، ورفس الباب بقدمه وسط ذهول الحاضرين، وكالبرق اعتلى المنصّة ليزيح كوشنير الذي كان يستعرض قدرته على عرض الشرائح التدريبيّة بيده، وقبلَ أن يعلو اللّغط في القاعة، صرخَ في وجوه الحاضرين كالرّعدِ قوّة وقصفا:

لا تصالحْ!
‏ولو منحوكَ الذهب
أتُرى حينَ أفقأُ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل تَرى؟!
هي أشياءُ لا تشترى‏

ثمّ التفتَ إلى حيثُ الكاميرات تنقلُ على الهواء مباشرة، وقال: لا توقفوا البثّ، أريدُ أن أقول لكلّ حرٍّ في هذه الأرض:

لا تصالح على الدّم.. حتى بدم!
لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ
أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟!
أقلبُ الغريب كقلب أخيك؟!
أعيناه عينا أخيك؟!
وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لكْ
بيدٍ سيفها أثْكَلَكْ؟

سيقولون:

جئناك كي تحقن الدّم..
جئناك؛ كُن - يا أمير - الحكَمْ

سيقولون:

ها نحن أبناءُ عمْ
قل لهم: إنّهم لم يراعُوا العمومة فيمَن هلكْ
واغرس السّيفَ في جبهة الصّحراء
إلى أن يجيبَ العدمْ
إنّني كنت لك
فارسا
وأخا
وأبا
ومَلِكْ!

قاطعَه متلفّعٌ بعباءةٍ حريريّة: إنّنا مضطرّون لهذا يا أمل، فلا تحمّلنا ما لا نطيق، وتوقّف وأمثالُك عن المزاودة الفارغة! ارتعد دنقل في وجهه صارخا:

لا تصالحْ
ولو قالَ مَن مالَ عند الصّدامْ
‏"ما بنا طاقة لامتشاق الحسامْ"
عندما يملأ الحقّ قلبك
تندلعُ النار إن تتنفَّسْ
ولسانُ الخيانة يخرسْ

ثمّ التفت إلى المتكرّش المتكوّر على كرسيّه فاغرا فاه، وصرخ أمل في وجه: أمّا أنت فاسمعني جيّدا أنت وكلّ عرّابي هذه الصّفقة العار:

لا تصالحْ‏
ولو توَّجوك بتاج الإمارةْ
كيف تخطو على جثة ابن أبيكَ؟!‏
وكيف تصير المليكَ..
على أوجهِ البهجة المستعارةْ؟
كيف تنظر في يد من صافحوكَ
فلا تبصر الدّم
في كلّ كفّ؟ ‏
إن سهما أتاني من الخلفْ
سوف يجيئُك من ألفِ خَلفْ
فالدّم - الآن - صار وساما وشارةْ
لا تصالح
ولو توَّجوك بتاج الإمارة
إنّ عرشَك: سيفٌ ‏
وسيفَك: زيفٌ ‏
إذا لم تَزِنْ - بذؤابته - لحظاتِ الشرفْ
واستَطَبتَ التَّرفْ

‏وحينَ انقضّ عليه رجال الأمن ليسحبوه خارج القاعة وقد أفسد عليهم جلستهم، أمسك الميكرفون بكلتا يديه وقال: اسمعني أيّها الفلسطينيّ جيّدا قبلَ أن يقتلوني:

لا تصالح
ولو وقَفَت ضدّ سيفِك كلّ الشّيوخْ
والرّجال التي ملأتها الشّروخْ
هؤلاء الذين يحبّون طعمَ الثّريد وامتطاءَ العبيدْ
هؤلاء الذين تدلّت عمائمُهم فوق أعينهم
وسيوفهم العربية قد نسِيت سنوات الشّموخْ‏
لا تصالحْ
فليسَ سوى أن تريدْ
أنتَ فارسُ هذا الزّمان الوحيدْ
وسواكَ.. المُسوخْ!

وغاب في الرّدهات صوتُه وهو يصرخ صرخته المخنوقةَ الأخيرة بين أيدي جلاوزة الأمن:

لا تُصالحْ
لا تصالِحْ
التعليقات (0)