مقالات مختارة

الصفقة تقترب، الصفقة تبتعد!

عبد المجيد سويلم
1300x600
1300x600

الصفقة جاهزة، الصفقة قيد الإنجاز، الصفقة بعد العيد، الصفقة بعد "الانتخابات"، الصفقة بعد "المنامة"، الصفقة مؤجّلة، الصفقة ربما بعد الانتخابات الإسرائيلية الجديدة، الصفقة بعد الانتخابات الأميركية القادمة.

باختصار الصفقة تختنق، الصفقة تحتضر، الصفقة قد تنتحر.

إذا كانت إدارة الرئيس ترامب قد نجحت في شيء فهو هذا "الإلهاء" الذي يستمر، بل وهذا "التخدير" الذي حقنت به منطقة بأكملها.

لم يصدقنا البعض عندما قلنا: إن "الصفقة" قد انتهت منذ بدء سلسلة كاملة ومتواصلة من الإجراءات والقرارات. مكتب المنظمة، وقف المساعدات الرسمية، تفليس الأونروا، الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، إلحاق القنصلية بـ "السفارة"، شرعنة الاستيطان وضمّ الجولان، على طريق ضمّ ما يُمكن من الضفة. حُكم ذاتي مقلّص بدلا من "الدولة"، الإبقاء على غزة مفصولة، سرقة أموال المقاصة، وأخيرا "الحل" الاقتصادي من أجل إنهاء قضية اللاجئين وضخ كل ما يلزم وكل ما هو ممكن من أجل التوطين.

مأساة كاملة في ثوب ملهاة خبيثة.

الآن يتكشّف لنا جميعا وعلى رؤوس الأشهاد أنه مع شذرات الشق السياسي في الصفقة التي "ستأتي"، نكون أمام "إنهاء" وتصفية كاملة للمشروع الوطني، ونكون أمام تطبيق فعلي للوطن البديل، ونكون أمام أمة بكاملة مرهونة بكل ثرواتها وجغرافيتها ومواقعها ومواردها للولايات المتحدة، وتكون إسرائيل قد تحولت إلى دولة طبيعية أو صديقة أو شقيقة.
مقابل ماذا؟

مقابل أن "تقبل" الولايات المتحدة بتأمين وحماية "العرب" من "أهوال" إيران و"الخطر" الذي باتت تمثله على هؤلاء العرب.

لم يسبق في التاريخ المكتوب، ولا حتى الشفوي أن اشترت أمة عبوديتها وهوانها وذلّها بأموالها وثرواتها ومستقبل أجيالها.

لم نسمع ولم نقرأ عن حفنة من الدولارات مستخرجة من جيوب الحكام كانت "كافية وشافية" لتبديد مصائر شعوب وأمم، ولم يحدث أن حقوقا وطنية هي رمز للعدالة والحق والإنسانية بيعت في أسواق المال والأعمال كما يتم التحضير للصفقة المزعومة.

وباختصار، أيضا، الصفقة في جوهرها تمت، والصفقة في شقها السياسي حسمت بالتبني الكامل لكل ما كانت تخطط له إسرائيل، ولكن ما كانت دوائرها الأكثر يمينية وعنصرية تمهد لمسرح متكامل بما في ذلك الممثلون والإضاءة والديكور وضيوف الشرف والمتفرجون.

ربما تكون هذه الصفقة هي الأولى في التاريخ التي تقوم على مثلث متساوي الأضلاع.

ضلع يخطط، وضلع يأمر، وضلع ينفذ. إسرائيل خططت للسلام الاقتصادي، وإدارة ترامب اقتنعت وأمرت به، والحكام العرب أو بعضهم وافق على التنفيذ. دون أن ننسى للحظة واحدة أن التوطين يصبح هو الوطن، والحرية تصبح حرية تقبّل المهانة، والتخلي عن كرامتنا، ويصبح الاستقلال هو انفصال وضياع ورضوخ لاحتلال "شرعي" وأرض مصادرة، بحيث "تقبل" إسرائيل بتقديم تنازلات "مؤلمة" وبحيث تكون الأرض التي يسكنها الفلسطينيون حاليا على ما يقارب نصف مساحة الضفة تحت تصرفهم على سبيل الإعارة والاستحواذ، دون أن ننسى ودون أن ينسى أحد أن هذه الأرض هي جزء لا يتجزأ من "يهودا والسامرة"، ومن أرض "الأجداد".

الشق السياسي إذن هو: قطاع غزة، فقير ومحاصر، منفصل ومنهك، يمكن أن ينظر في أمور أوضاعه الحياتية حتى لو وصل الأمر في نهاية المطاف إلى بناء موينئ (تصغير ميناء)، ومهبط يسمى مطار. 
الحياة في هذا القطاع محكومة بمساحة ومسافة الصيد، وبزراعة على مياه مالحة، وسكان بالملايين يتكاثرون بسرعة مذهلة على أرض لا تزيد مساحتها على مساحة مطار كبير من مطارات الغرب أو حتى مطارات بعض العرب.

أما في الضفة، فستقوم شبكة معقدة من الطرق لفصل المستوطنين عن المواطنين الفلسطينيين، ولتواصل البلديات والمجالس القروية مع بعضها البعض، بحيث تتغير المداخل والمخارج لهذا "التواصل" حسب الاحتياجات الأمنية، وحسب مزاج الجندي الواقف في حواجز الجيش على مفارق هذه الطرق.
التواصل بين غزة والضفة "وارد"، من حيث المبدأ وممكن أن يكون بالقلوب والمشاعر إذا ما تعذر عبر الأنفاق والجسور.

والشتات إما هاجر أو توطن، وعليه أن يخلي ويفسح المجال كاملا أمام ذاكرة جديدة وهوية جديدة، وتاريخ جديد، وجغرافيا جديدة.

وباختصار آخر، نحن في الشق السياسي من "صفقة" القرن سنكون أمام ثلاث إستراتيجيات على طريق التحقق الكامل: إستراتيجية كي الوعي الفلسطيني، وإستراتيجية تخفيض سقف توقعات الفلسطينيين، ثم إستراتيجية مقايضة الوطن والذاكرة والتاريخ والمستقبل بحفنة من الدولارات. يبدو الصراع في أحد تجلياته الدرامية هو صراع على من سيستيقظ أولا.

إن استيقظنا قبل فوات الأوان فسيستيقظون حتما على حلم تبدّد إلى وهم وتحوّل إلى كابوس.

عن صحيفة الأيام الفلسطينية

0
التعليقات (0)