مقالات مختارة

حصار قطر وقيثارة ترامب

صبحي حديدي
1300x600
1300x600

ثمة أكثر من طريقة واحدة، غنيّ عن القول، لاستقراء مفهوم الحصار في عالمنا المعاصر، ولتلمّس تعبيراته الفعلية الملموسة؛ خاصة على ضوء المعطيات الجيو ــ سياسية والاقتصادية والأمنية الأوسع التي تكتنف طرفَيْ المعادلة معا، أي المحاصِر والمحاصَر، وهي أغلب الظنّ معطيات معقدة متشابكة، وليست البتة أحادية البُعد أو عيانية ظاهرة دائما.

بين تلك الطرائق أن يردّ المرء حكاية الحصار إلى مبتدأ تكويني حاسم فيها، هو موقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؛ أو، بالأحرى، سلسلة المواقف التي لم تكن، حتى الساعة، سوى حصيلة صارخة في التناقض والتقلّب وانعدام المنطق. ففي مثل هذه الأيام، ولكن قبل سنتين، بدا وكأنّ رئيس القوّة الكونية الأعظم يدغدغ رغائب دفينة، قديمة ومتأصلة وبعيدة الغور، عند زعماء السعودية في تطويع دولة قطر؛ فكان أن “عزف السعوديون على ترامب وكأنه قيثارة”، حسب تعبير الخبير الاستخباراتي الأمريكي بروس ريدل، من معهد بروكنغز.

وهكذا غرّد ترامب: “خلال رحلتي الأخيرة إلى الشرق الأوسط صرّحت بأنه لن يكون هناك تمويل للإيديولوجية الراديكالية بعد اليوم. والزعماء أوضحوا لقطر: حذار!”. وتتفق غالبية المراقبين على أنّ “غمزة” ترامب تلك هي ما كانت الرياض تنتظره، فسارعت إلى توليف تحالف رباعي مع الإمارات والبحرين ومصر، وتمّ فرض الحصار المعروف على قطر. العقلاء من رجال إدارة ترامب، وكان عددهم معقولا يومذاك، فوجئوا وبُهتوا ونأوا، دون إبطاء، عن هذا اللامنطق الذي يتجاهل الكثير من تفاصيل الخلافات الخليجية ـ الخليجية، كما يتناسى طبيعة العلاقات الوطيدة بين واشنطن والدوحة، وكذلك حقيقة وجود أكثر من 11 ألف جندي أمريكي في قاعدة العديد على أرض قطر.

وكان طبيعيا أن يحمل العبء الأوّل، آنذاك، وزير الدفاع جيمس ماتيس، وزميله وزير الخارجية ريك تيلرسون؛ فتطوّع الثاني للقيام بدور وسيط السلام، وجاهر الأول بتصريح يؤكد عمق العلاقات الأمريكية ـ القطرية وكأنه ناشد العالم اعتبار تغريدة رئيسه شطحة عابرة على تويتر. كلاهما، مع ذلك، كان يعرف أنّ الرياض سوف تواصل العزف على قيثارة ترامب؛ ليس لأنّ الرئيس أهبل ومغفل جاهز لأن تعبث بأوتاره أصابع الملك سلمان أو وليّ عهده الصاعد، بل أساسا لأنّ عين الرئيس شاخصة على مئات المليارات من عقود السلاح التي سوف تبرمها المملكة، ولن يكون تأثيرها قليلا في النهوض بأرصدة ترامب الشعبية داخل الولايات المتحدة.

بهذا المعنى فقد صدرت عن القيثارة إياها، في مطلع العام 2018 وخلال اتصال هاتفي مع أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، نغمة مختلفة تماما؛ بل كانت، من دون مبالغة، نقيض أنغام الرياض في حزيران (يونيو) 2017: لقد شكر ترامب الأميرَ على محاربة “الإرهاب والتطرّف بجميع الأشكال”، وأعاد التأكيد على دعمه لمجلس تعاون خليجي موحّد، “يركّز على مواجهة الأخطار الإقليمية”. ومنذئذ، وحتى الساعة، بدا وكأنّ الرئيس الأمريكي استقرّ على رأي مستشاريه، في أنّ الحصار المفروض على قطر اسم على غير مسمّى!

ما خلا أنّ استمرار الحصار، حتى في صيغته الراهنة العاجزة، يُلحق مع ذلك أشكال أذى مختلفة بشعوب الخليج العربي كافة، ويحرّض على أنماط غير مسبوقة من الشقاق والتعصب والانحيازات الهوجاء، وتمتدّ تأثيراته السلبية إلى العديد من شعوب المنطقة والعالم. وما خلا، كذلك، أنّ المحاصِر، وليس المحاصَر، هو الذي لا ينتقل من مأزق إلا لكي يدخل في أزمة، ليس ابتداء من صفة “المنشار” التي باتت لصيقة بشخص محمد بن سلمان بعد اغتيال جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول، وليس انتهاء بورطة وصول الحرب الهمجية على اليمن إلى درب مسدود.

ولعلّ أحدا لا يتذكّر اليوم الشروط الـ13 التي وضعتها دول الحصار، في ذروة انتشائها بمواقف القيثارة وتغريداتها؛ فثمة دائما صحوة من نوع ما، بعد كلّ سَكْرة!

عن صحيفة القدس العربي

0
التعليقات (0)

خبر عاجل