كتاب عربي 21

السندويش والقبة غير الحديدية

أحمد عمر
1300x600
1300x600

السندويش طعام سريع، والسرعة خطرة في الطرقات وفي البلعوم أيضا. الأكل السريع موت سريع.


تقول أخبار السيرة الذاتية للسندويش أن صانعه الأول هو إيرل سندويتش وأنه من كثرة إدمانه على القمار كان ينهمك في اللعب ولا يبرح مكانه عاكفاً على الميسر ولا يجد فسحة لتناول طعامه، وفي يوم من الأيام طلب من الخادم وضع قطعة لحم بين قطعتي خبز حتى يتناولها تجنيباً للمكان من الاتساخ، فراح زملاؤه يطلبون من الخادم نفس الشيء ويقولون "أعطنا مثل ساندويتش". إياكم وساندويش الدمن.

 

ومن العجائب أن الدواعش الاسبتارية يحبون طعام الفرنجة: الساندويش والكولا!
السندويش واحد من علامات الحداثة، وأهم رموز عصر السرعة، وأحد خصائص الفردية، وبعضهم يؤنث الاسم فيصير سندويشة، وفي بلاد الشام يسمون سندويشة الولد عروسة فيلتهم الولد عروسه باكراً.

 

أمس تداول نشطاء صورة لرئيسين أمريكيين أمامهما طعام من أسرة السندويش، وملك عربي يجلس أمام أهرامات من الرز وقد احمرّت عليه الذبائح، ونرى في الفيديوهات صوراً لجرافات عربية لا تستخدم لحفر الأنفاق أو إزالة الجبال من مواضعها تمهيداً للوحدة العربية، وإنما لرمي طعام الأغنياء في القمامة نكاية بالفقراء.

الحداثيون ضد العائلة، ومع الفردية إلا في الحكم. في أوربا كل مواطن فرد، في ديارنا الرئيس هو الفرد الوحيد.

السندويش أكل الواقفين الذين يلعبون بنرد الزمن، قبل مائة سنة لم يكن القضاة يقبلون شهادة من يأكل واقفاً، وينهى الحديث النبوي عن الأكل وقوفاً، بل أمر النبي عليه الصلاة والسلام من أكل وقوفاً بالاستقياء، الأكل واقفاً مضر بالصحة، فاللقمة والسقية تنزل في البلعوم، كجلمود صخر حطه السيل من عل، ويثني مفكرون أمثال المسيري على الطعام المركب العائلي. لشارلي شابلن سخرية سوداء في الأزمنة الحديثة من طعام الآلات. السندويش تحميلة في الفم.

 

السندويش ضد المروءة التي قد يقهقه لها كتاب الحداثة المغارير، مع إن الغرب نفسه يمنح المجد لأبطال رياضة يتعاطفون مع زملاء ومنافسين بمروءة طارئة فيتخلون عن الفوز من أجل زملاء تأخروا أو أصيبوا.

 

الحداثيون مع الأخلاق العلمية، أي الوقوف بالدور في سبيل الحصول على السندويش أو تذكرة السينما بدلاً من الأكل على مائدة مع الأسرة أو الأصحاب، كأن اللقمة تحفظ الذكريات وتتحول إلى دماء تجري في الشرايين.

 

قديماً كان من شروط المائدة أن يجتمع عليها الجميع كما في رمضان، رمضان هو شهر الأسرة، وهو شهر الأمة، وهو شهر محنة وحنان، وهو شهر الذكريات، السندويش بلا ذاكرة. شهر رمضان سعته مليون جيجاً، الشهور الأخرى سعتها أقل.

 

المسلم يتلو البسملة والمسيحي يقرأ الدعاء قبل الطعام "اللهم أعطنا خبزنا كفاف يومنا..." وكنت أحسب البسملة شأناً نفسياً وروحياً للبركة، وتبين لاحقاً أن موجات الصوت الناعمة الفيزيائية تجعل الطعام هيناً ليناً.


الحداثيون ضد العائلة، ومع الفردية إلا في الحكم. في أوربا كل مواطن فرد، في ديارنا الرئيس هو الفرد الوحيد.

 

السبب أن الدولة الغربية تقوم مقام الجماعة فتحفظ حقوقها القومية. أهم الحداثيين العرب يعمل في صحف وإعلام أشد الطغاة سوءاً، ويرفعون شعار الحرية التي قيل فيها: كم من الدماء سفكت باسمك أيتها الحرية.


المعروف عن الخلفاء والأمراء، والفرسان العرب أنهم كانوا يكرهون الأكل وحدهم، وكانوا يأمرون جنودهم وهم على سفر أو في غزوة، البحث لهم عن مؤاكل، وأصله قديم، وهناك باب في كتب الأدب اسمه باب المؤاكلة، وكتاب اسمه أدب المؤاكلة للغزي.

 

ومن ذلك أنه حضر أعرابي سفرة هشام بن عبد الملك؛ فبينا يأكل معه إذ تعلقت شعرة في لقمة الأعرابي، فقال له هشام: عندك شعرة في لقمتك يا أعرابي. فقال: وإنك لتلاحظني ملاحظة من يرى الشعرة في لقمتي! والله لا أكلت عندك أبدا. 


ومن ذلك أنه أكل قائد لأبي جعفر المنصور معه يوماً، وكان على المائدة محمد المهديّ وصالحُ ابناه، فبينا الرجل يأكل من ثريدة بين أيديهم، إذ سقط بعض الطعام من فيه في الغضّارة فكأن المهدي وأخاه عافا الأكل معه، فأخذ أبو جعفر الطعام الذي سقط من فم الرجل فأكله، فالتفت إليه الرجل فقال: يا أمير المؤمنين، أما الدنيا فهي أقلّ وأيسر من أن أتركها لك، والله لأتركن في مرضاتك الدنيا والآخرة.


والأشعار في ذلك كثيرة أشهرها بيت عروة بن الورد: إني امرؤ عافى إنائي شركة / وأنت امرؤ عافى إنائك واحد. يقول مثل مصري قديم "من يأكل وحده يزوَر" أي يصاب بمتاعب في البلع، الطعام يحتاج إلى مساعدة وحماية ظهر، ثمة دراسة علمية حديثة تذهب لأبعد من ذلك بكثير، مؤكدة أن "من يأكل وحده قد يصاب بأمراض خطيرة".

 

وفي الحديث: "ألا أخبركم بشر الناس؟ من أكل وحده، ومنع رفده، وضرب عبده"، ومنذ سنوات ربطت دراسات عدة بين الوحدة والمشكلات الصحية والعقلية، لكن بحثاً حديثاً صدر عن جامعة "دونجك" في العاصمة الكورية الجنوبية سيول، أشار إلى أن تناول الإنسان طعامه وحيداً يضعه تحت خطر الإصابة بـ “متلازمة الأيض".

في الأثر، ستفتح روما بالتكبير، وربما بالكباب قبل التكبير، وكانت أختها القسطنطينية قد فتحت بالسيف. سخر رئيس المجر إبان النزوح الكبير إلى أوربا من الترك وعموم المسلمين بأنهم لا يجيدون شيئاً سوى صناعة الشاورما والكباب.

قال المشرف على الدراسة: إن الأكل الجماعي أو مع الصاحب وسيلة بسيطة لتعزيز الصلة مع الآخرين. وهو ما يسمى الممالحة. والعرب تعظم أمر الملح، ويقولون: فلان ملحه على ركبتيه إذا كان مضيعاً لعهده، وملحه في يمينه إذا كان ضد ذلك.

 

وعن وحشي بن حرب رضي الله عنه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله إنا نأكل ولا نشبع قال: فلعلكم تفترقون؟ قالوا: نعـم. قال: "طعام الواحد يكفي الاثنين وطعام الاثنين يكفي الأربعة وطعام الأربعة يكفي الثمانية"، السندويش لواحد فقط. بالطعام المسكوب في قصعة يمكن أن تشبع أكثر بأكل خبز أكثر، لكن خبزة السندويش ثابتة المقدار.

 

في شعر الطعام وقصائده، والطعام قصيدة مدبجة على النار بنقوش الملح والبهار. ثمة مجموعة شعرية لعامر درويش بالإنكليزية عنوانها " Don't Forget the   Couscous”  وأظن أنه ما كان ليصدرها بالعربية بنفس العنوان وقد جمع الأطيبين فيه وأقصد البرغل واللحم.

 

أجمل عنوان شعري عن الطعام الموضوع هو لعز الدين المناصرة: "لن يفهمني أحد غير الزيتون"، وأثبتت دراسات علمية أن زيت الزيتون به مواد مشعة مضيئة، وهذا يحيل إلى آية النور في سورة النور. وفي الحديث: كلوا الزيت وادهنوا به. الزيت طبيب وحكيم وحسن الفهم.


في الأثر، ستفتح روما بالتكبير، وربما بالكباب قبل التكبير، وكانت أختها القسطنطينية قد فتحت بالسيف. سخر رئيس المجر إبان النزوح الكبير إلى أوربا من الترك وعموم المسلمين بأنهم لا يجيدون شيئاً سوى صناعة الشاورما والكباب.

 

وكان هرقل سبقه عندما عيّر المسلمين الفاتحين بأنهم أكلة الضِباب. الطعام موضوع للفخر والهجاء. 
أما وقد غزا السندويش الديار وفرق بين الأخيار، وجعل أكلة “الكلب الساخن" هوت دوغ، سريعي الغضب، فإننا نزعم أن السندويش السوري ليس كمثله، وقد سحر المصريين، حتى إن شمبر وهو كوميديان مصري على اليوتيوب، تقرب إلى خطيبته وحاول استمالتها بشتى الهدايا، فلم تبتسم له إلا بهدية سورية ثمينة وهي السندويش، وقديماً قيل الطريق إلى قلب الرجل هو معدته، وبما أننا في عصر السندويش فقد صار الطريق إلى قلب المرأة هو الطعام، ما دام الطعام جاهزاً، أما صديقي نوري فهو لا يزال على الأصل: الطريق إلى قلب الرجل هو جمال المرأة. الطرق الأخرى في النار. مجمع العربية اللغوي عندما عرّب الساندويش حوّله إلى وليمة ألفاظ: الشاطر والمشطور وبينهما كامخ.


السندويش السوري ليس مثل السندويش الأوربي، مركب وصنعة وخبرات، الأوربي خبزة منفوشة مشطورة حشرت فيها موزة لحمية قوسية، ولاشي سوى ذلك، أما السندويش السوري، فمستور مثل المرأة المسلمة، لا يبان منها سوى وجهها، وهو نسباً وصهراً مكوّن من رقاقة خبز مدورة، يحشد السوري فيها ما استطاع إليه سبيلاً من طيبات تبلغ سبعة أنواع من الأطعمة المساعدة الوصيفة مع الطعام الرئيس؛ فلافل وخيار وطماطم، ومخلل، ولبن متبل، ويسمونه الطرطور، وأملاح وبهارات ويخلق ما لا تعلمون.

 

وقد أخبرني صديق ألماني ذاق بأس طعم السندويش السوري، فحصل له ما حصل لمن شم عطراً من عطور جان باتيست غرنوي، فصرخ مثل ارخميدس: أنا أحلق من غير أجنحة.

 

حتى إن المطابخ السورية تقدم السندويش طعاماً سيداً فتقطعه إلى لقيمات في صحفة وبجانبه السلطات فتجعله مائدة منزلة.


الطباخون أشهرهم ذكور مع أن المشهور أن المطبخ ميدان النساء اللواتي يحولن المطبخ إلى وغى يتطاير فيه الدخان والنقع اللذين يجعلان العدو حبيباً، فيبدأ قصف الروائح قبل الإفطار.

 

وكثيرون يخطئون في تسمية الأيام الغر الثلاث من شوال بالعيد، فالعيد رمضان، والأيام الثلاث بعد شهر رمضان هي جنازة رمضان.

 

تقل القدرة على الباه مع الزمن، والقدرة على الطعام أدوم، وكان البرغل سيد الأطعمة قبل غزو الرز بلادنا، فغلب البرغل، وشنق حاله، والرز أبو الأمراض، وقد غلب السندويش الاثنين.


الصحافي توماس فريدمان، في كتابه "الليكزس وشجرة الزيتون" يكشف عقيدة الأمريكي الحداثي، فالحداثة عنده هي الجمع بين الهامبرغر وقيادة السيارة الفاخرة، هو ضد شجرة الزيتون، الزيتون يعني الثبات والطبيعة، ولا تسبب حوادث، الليكزس يعني الصناعة وهي متحركة سريعة مثل الهامبرغر.

 

قرأت بحثاً وقع عليه الباحثون عن الإعجاز العلمي مسرورين في القرآن يقول: إن الزيت به مواد مشعة مضيئة فلورسنتيه. يرجى مراسلتي لمن شاء أن يستضيء به.


طلب بنو إسرائيل من المسيح بن مريم عليه السلام مائدة من السماء، ولم يصبر بنو إسرائيل على طعام واحد، وقد عوقبوا بالحرمان من أكل الشحوم، ولم تطلب قريش مائدة من الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد ابتعدنا عن الأرض أمّنا الأولى فصرنا نأكل على الطاولات، والأكل باليد غير ذات الشوكة، أطيب من غير وسائط أو أدوات الحرب على الموائد مثل الملعقة والشوكة والسكين والخرطوم النحيل الذي نمتص فيه العصائر فنحرم بعض الحليمات الذوقية الموزعة على اللسان من بعض المذاقات والأطايب.

 

في الأفلام الأمريكية، البطل يطارد المجرم أو ينتظره وهو يأكل البيتزا أو السندويش، والبيتزا سندويش مفتوح، ثم يرمي بنصفها في الزبالة.


وكانت معلمتي الألمانية في غيهب الغسق في أول درس تسأل كل طالب، ما أكلتك المفضلة؟ وكنت أريد أن تسألني مثلاً عن كتابي المفضل، وفي فتح الحساب على الفيس بوك، وهو غير فتح الباري، يسأل صناع الموقع صاحب الحساب عن الفلم المفضل، فجزية كل مواطن أن يكون له نجم سينمائي، فقلت للمعلمة الألمانية: أكلتي بسيطة جداً اسمها الثريد، وهو خبز مرقوق مخبوز من غير تخمير قطره نصف متر، يرصف ثلاث طبقات في قصعة قطرها نصف متر، ثم يصب عليها اللحم مع إدامه.

 

ليس بجانب الطعام سلطة كوصيفة أو خضروات كخدم وحشم، هذا الطعام ملك الأطعمة، وهي تؤكل مع الأهل باليد العزلاء.


المسيح كان وحيداً، هو ابن الله الوحيد في العقيدة الغربية، لا أخ، لا أب، حتى أمه شبه غائبة في سيرته، مثل الفرد الغرب المعاصر.

 

نسبة الأطفال الذين يولدون في مفارخ الدولة كبيرة تقترب من الربع في بعض البلدان الأوربية، الفرد يشتري طعامه ويأكله وحيداً، ويزعم كاتب السطور أن فردية العربي وفخره بذاته ومن في حكمه من الترك والفرس الأفغان والكرد أكثر وضوحاً من فردية الغربي الذي يحتكر طعامه فلا يدنس كوبه أحد، ولا يشاركه صحنه أحد، لكنه لا يجد من بأساً من مراقصة زوجته أو صديقته، ويعد ذلك مدحا لجمالها، وتظهر الفردية في التكوين الجمالي للبيت العربي، بينما البيت الغربي المكشوف مفتوح مثل السندويش الغربي الذي يشبه وجه ايموجي.  
 

1
التعليقات (1)
الصعيدي المصري
الإثنين، 06-05-2019 09:52 م
انا .. تهت .. رغم اني لم استطع الامساك بالهدف من تلك المعلقة النثرية .. الا انني استمتعت بقراءتها .. ربما احد مميزات ما اعتيرها - معلقات احمد عمر .. انها تذكرني .. بحلاوة غزل البنات .. حلوة المذاق .. ضخمة الحجم .. لكنها مصنوعة بجرامات من السكر