قضايا وآراء

حوار أدرك جوهر الأمر

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
هو حوار دار في بيت أديب نوبل الكبير نجيب محفوظ، وكان طرفه الآخر الدكتور أحمد كمال أبو المجد رحمه الله، الذي رحل عن دنيانا في 3 نيسان/ أبريل الماضي، وشهده الإعلامي الراحل أحمد فراج، والأستاذ إبراهيم المعلم، والأديب محمد سلماوي، وكانت له مكانة مميزة لدى محفوظ. يومها قال أبو المجد لمحفوظ: "ويبقى أن نسألك عن رأي عبرت عنه منذ أسابيع قليلة، في رسالة وجيزة إلى الندوة التي نظمتها الأهرام تحت عنوان "نحو مشروع حضاري عربي"، فقد قلت للمشاركين في الندوة: إن أي مشروع حضاري عربي لا بد أن يقوم على الإسلام وعلى العلم. ولقد وصلت رسالتك (على قصرها) واضحة وصريحة ومستقيمة ولا تحتمل التأويل، ولكن يبقى، ونحن معك نسمع لك وننقل عنك، أن تزيد هذا الأمر تفصيلا.. نحتاج جميعا إليه وسط المبارزات الكلامية التي يجري فيها ـما يستحق الحزن والأسف؛ من ألوان تحريف الكلام وتزييف الآراء والافتئات على أصحابها"..

وفي حماسة شديدة وصوت جهير ونبرة قاطعة، انطلق نجيب محفوظ يقول: "وهل في تلك الرسالة جديد؟ إن أهل مصر الذين أدركناهم وعشنا معهم، والذين تحدثت عنهم في كتاباتي، كانوا يعيشون بالإسلام ويمارسون قيمه العليا دون ضجيج ولا كلام كثير، وكانت أصالتهم تعني هذا كله. ولقد كانت السماحة وصدق الكلمة وشجاعة الرأي وأمانة الموقف ودفء العلاقات بين الناس؛ هي تعبير أهل مصر الواضح عن إسلامهم. ولكني في كلمتي إلى الندوة أضفت ضرورة الأخذ بالعلم؛ لأن أي شعب لا يأخذ بالعلم ولا يدير أموره كلها على أساسه لا يمكن أن يكون له مستقبل بين الشعوب. إن كتاباتي كلها، القديم منها والجديد، تتمسك بهذين المحورين: الإسلام الذي هو منبع قيم الخير في أمتنا، والعلم الذي هو أداة التقدم والنهضة في حاضرنا ومستقبلنا".

ونشر الدكتور أبو المجد هذا الكلام في مقال نشر في الأهرام في 9 كانون الأول/ ديسمبر 2011.

رحم الله نجيب محفوظ وكمال أبو المجد الذي اختتم مقاله قائلا: "الدين، الذي به هداية الناس وراحة النفوس، والذي يفيء ألوانا من المحبة والسماحة ودفء العلاقات والتسابق إلى الخير، على حارتنا الكبيرة مصر.. والعلم، الذي تحيا به العقول، والذي هو مفتاح أمتنا، وكل أمة، إلى أبواب المستقبل الذي تتزاحم اليوم أمامها شعوب الدنيا كلها لتكون لها مكانة في ساحته التي تتشكل معالمها الجديدة يوما بعد يوم.

ولن نذهب بعيدا عن هذا الحوار القديم الجديد؛ إذا قلنا أن تاريخ الإصلاح والسياسة في الشرق عبر القرون الثلاثة الماضية ما هو إلا تاريخ الحركة بـ"لإسلام". كل المحاولات التي حملت عبأ النهضة والإصلاح، سواء على جانبه الفكري أو جانبه الحركي، ولم تعتبر بـ"الإسلام"؛ فشلت فشلا مدهشا، وبينها تيار القومية العربية بتنويعاته المتعددة، والتي يعد "البعث العربي" أحد أهم تنظيراتها، والذي خلص في نهاية رحلته التاريخية إلى الحقيقة الناصعة في ما قاله ميشيل عفلق في عبارته الشهيرة: "في وقت مضى تلخصت في رجل واحد حياة أمته كلها، واليوم يجب أن تصبح كل حياة هذه الأمة في نهضتها الجديدة تفصيلا لحياة رجلها العظيم. كان محمد كل العرب، فليكن كل العرب اليوم محمدا".. إلى فشل الأكثر إدهاشا كان من نصيب اليسار بكل تنويعاته.. أبناؤه الباحثون عن الحقيقة اهتدوا إلى تلك الحقيقة (عبد الوهاب المسيري وطارق البشري ومحمد عابد الجابري ومنير شفيق..)، وأصبحوا من كبار منظريها وعرّابيها. الباقون، وقد راعهم الفشل العظيم الذي عاينوه، اتخذوا الموقف القديم من الإصرار على الخطأ ظلما وعلوا (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْما وَعُلُوا). إذ لا أتصور مثلا أن محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس وأنور عبد الملك وحسن حنفي؛ قد عجزت بهم قدراتهم العقلية عن الاهتداء الصريح إلى تلك الحقيقة. وحسن حنفي تحديدا، صاحب نظرية العلاقة الأفقية والعلاقة الرأسية في العلاقة بين الخالق والمخلوق (تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا) الذي يثير حول أفكاره تساؤلات كثيرة، خاصة ما يقدمه تحت عنوان "اليسار الإسلامي". وما استعمال الكلمات بخفة إلا دليل على غياب الأفكار، كما يقولون.

الأستاذ هيكل، كعادته الراسخة في الإقرار فورا بما لا يمكن مخالفته، قال: "لا نهضة للشرق في غياب الإسلام". وزاد من الشعر بيتا في وقت لاحق وقال: "لا بد من تعبير سياسي عن الفكرة الدينية". لكن المسألة الآن تحتاج إلى وقفه معتبره في حياتنا السياسية والفكرية، فالتيار الإسلامي العريض، وهو الصوت التاريخي للفكرة الدينية في مدارات النهضة والإصلاح، يمر الآن بظروف استثنائية عصيبة.

فهل يعني ذلك تراجع الدور التاريخي المنشود للإسلام في البعث والنهوض؟ لا أتصور ذلك، فالأفكار تتطور من الأفكار، وفكر الإصلاح الإسلامي مر بمراحل تطور استند بعضها إلى بعض. فما قدمه الأفغاني كانت له خميرته عند الشيخ حسن العطار - مثلا - وأصحابه في الأزهر الشريف، وما قدمه محمد عبده كان تطورا بأفكار الأفغاني، خاصة فى تركيزه على الجانب الاجتماعي والتعليمي.. وما قدمه رشيد رضا كان تطورا بأفكار محمد عبده، وما قدمه التيار الإسلامي العريض من منتصف الثلاثينيات، بعد قراءات واسعة ومضنية، كان تطورا بأفكارهم جميعا، خاصة في خطوته الأكثر توفيقا بإحضار العامة لحمل نصيبهم من مشروع الإصلاح، وكأنه كان يتمثل مقولة الإمام علي عن العامة من الناس "عمود الدين وجماع المسلمين العامة من الأمة"، وزاد على ذلك باستحضار النخبة المفكرة (أحمد أمين والعقاد ومحمود شاكر والسنهوري وعبد الرحمن عزام)، منهم من لم يستجب له، ومنهم من استجاب في حدود.

لكن الصدام المروع الذي حدث مع حركة 23 تموز/ يوليو في بداية خمسينيات القرن الماضي، وما ترتب عليه من سجن وتعذيب وتقتيل، أثمر ثقافة مختلفة بعض الشيء، وأنتجت تصورات بعدت قليلا عن البدايات الأولى، ثم كان ما نعرف جميعا من الأثر الاجتماعي والفكري البالغ السوء لهزيمة 5 حزيران/ يونيو 1967م، ودخول المجتمع مرحلة السبعينيات، والتي تميزت بحالة إسلامية تعبويه أقرب إلى الحشد والنفير؛ منها إلى التربية والبناء. لكن التجربة التي يمر بها اليوم المجتمع العربي عامة، والتيار السياسي الإسلامي خاصة، تكاد تحمل لنا أفقا عريضا وسيعا باتجاه المستقبل بأن الإسلام والعلم والإنسان هم جوهر الأمر في أي مشروع للنهضة والإصلاح، وهم المورد المنفتح على الدنيا والعالم عطاء وأخذا.
التعليقات (0)