مقالات مختارة

ديكتاتورية الصمت!

عبد الناصر بن عيسى
1300x600
1300x600

ما تقوم به السلطة تجاه حراك الشارع هو نوع جديد من الديكتاتورية، لم يسبق لأي نظام في تاريخ البشرية أن مارسه، وهو الصمت المطبق، وكأن المعنيين بهذه المسيرات يعيشون في عالم آخر غير عالمنا، وهم الذين عوّدونا على القول الكثير إلى درجة الثرثرة من دون مناسبات، وعلى التحرّك والهرولة، إلى درجة الرقص في كل الوضعيات المتسللة، أو ربما يطبقون قاعدة: "افعل وقل ما شئت، فأنا فعلت ما شئت". فمن غير المعقول أن يسير الناس آلاف الكيلومترات ويقولون ملايين من براميل اللعاب، ويكتبون بحارا من الحبر، ويكحّلون عيونهم، ويبيّضون لياليهم في العالم الأزرق، ولا يحرك الذين لأجلهم اندلع هذا الحراك ساكنا.

يقول الكثير من خبراء السياسة في العالم إن سلمية مسيرات الجزائريين، وإصرار المشاركين فيها على أن تبقى نظيفة، هو من إفرازات الدروس التي استوعبها الجزائريون من تجارب وقعت في بلاد أخرى، ومنها ما حدث لدى الجيران، ولكن لا أحد فهم إلى حدّ الآن لماذا لم تأخذ السلطة من تجارب بقية الأنظمة التي هبّت عليها عواصف ما سميّ الربيع العربي، حتى تضمن سلمية الحراك، وتخرِج الأزمة إلى برّ الأمان، فالفرصة سانحة لأجل الاستجابة لمطالب الشعب، ووضع البلاد على سكة النمو التي انحرفت عنها منذ سنوات وربما منذ عقود، عندما صار حاكم البلاد لا يسمع أنّات الناس، ولا يواسي من أتعبتهم الحياة صوتا وسمعا معنويا وحسّيا، فتاهت الجزائر في صحراء الفقر، وهي من أغنى بلاد المعمورة، وعجزت عن مواكبة بعض الديمقراطيات الناشئة التي انطلقت في بلاد أفريقية فقيرة مثل تشاد وإثيوبيا.


لقد ضربت الجزائر على مدار التاريخ مثالا نادرا في منح المسؤوليات الكبرى للشباب، أو ربما ضرب شبابها المثل النادر في سعيه للمسؤوليات الكبرى والصعبة، فلم يكن غريبا أن يلقى الأمير عبد القادر الجزائري المبايعة الأولى للإمارة سنة 1832 وهو في ربيعه الرابع والعشرين، وليس عجيبا أن يؤسس الشيخ عبد الحميد بن باديس جمعية العلماء المسلمين لأجل نهضة البلاد وتحدي الاستعمار وهو دون الأربعين سنة، وليس مفاجئا أن يلتقي اثنان وعشرون مناضلا لأجل تفجير ثورة لا تبقي للاستعمار والاستبداد، ولا تذر، وأكبرهم في الثلاثين من العمر، بل حتى الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة حمل حقيبة وزارة الشباب والرياضة بعد الاستقلال، وهو في عامه الخامس والعشرين، كما قاد هواري بومدين الجزائر، ولم تتجاوز سنّه الثالثة والثلاثين، ولعبت الجزائر أول كأس عالم بمنتخب لاعبوه هم الأقل سنا ومدربه محيي الدين خالف دون الثامنة والثلاثين.

 

وللأسف، فإن الأخطاء الأخيرة، ومرض التشبث بالمناصب، جعل الشباب الجزائري يدخل عالم التقاعد قبل أن يعمل، وتنتهي صلاحيته قبل أن يكون، وبدلا من اللحاق ببلدان العالم التي انتهت من مشكلة الاستقلال الذاتي في صناعتها وزراعتها وثقافتها وفي سعادة شعبها وفي تشبيب مسيّريها وعلى رأسهم قائد البلاد، سارت الجزائر إلى الخلف، قبل أن تصمت نهائيا، أمام حراك سُمع في ألاسكا… وما سُمع هنا.

 

عن صحيفة الشروق الجزائرية

0
التعليقات (0)