قضايا وآراء

الحكواتي.. ومُهمة العودة للجذور

حمزة عقرباوي
1300x600
1300x600
"إذا كان المسرح أبو الفنون، فإن فن الحكي هو أبو المسرح".. بهذه المقولة يختصر المُخرج المسرحي حسن الجريتلي أهمية الحكاء، ومكانة فن الحكي بين الفنون الأدائية المختلفة. والحكي ورواية القصص، كما يقول الجريتلي، "من أهم وسائل التواصل الإنساني، فمن خلال الحكي نُعبّر عن الوجدان وننقل التجارب ونتشارك المعرفة، ونُعطي للأشياء لوناً وشكلاً ومعناً وطعماً".

الحكاء من الفعل حكى، وحكى الشيء أتى بمثله وشابهه. وحكى عنه الحديث: نقله. فهو حاكٍ، والجمع حُكاة. والحكّاء الكثير الحكاية ومن يقص الحكاية في جمعٍ من الناس، والحكواتي هو سارد القصص وراويها، وقد شاعت الكلمة مؤخراً للتدليل على من يحكي الحكايات الشعبية ويسردها في جمع من الناس.

والحكواتي ظاهرةٌ اجتماعية شعبية قديمة، تنتمي إلى الفلكلور العربي، وهي راسخة في فنون الأدب الشعبي الذي اعتبرها من أهم وسائل الترفيه والتسلية وتحريك الخيال وصناعة الثقافة.

واشتهر حكواتيو العرب قديماً بمهارات التقليد وتقمص الأدوار وحفظ طريف الأخبار، وقصص البلاد ونوادر العباد. ومن أشهر الحكواتيين الذين عرفهم العرب: خالويه المكدي، وعبادة المخنث، وأبو الورد، وأبو دبدوبة الزنجي، والمنذر المغني. ولعل من طريف وصفهم للحكاء ابن المغازلي ما قيل عنه للخليفة المعتضد العباسي: "يا أمير المؤمنين على الباب رجلٌ يُعرف بابن المغازلي يُضحك ويحاكي، ولا يدع حكاية أعرابي ونجدي ونبطي وزنجي وسندي وتركي ومكّي وخادم، إلا وحكاها، ويخلط ذلك بنوادر تُضحك الثُكول وتُصبي الحليم". ثم تخصص الحكواتيون العرب، وخُصوصاً في السنوات الخمسئمة الأخيرة، بسرد السير والملاحم الشعبية التي لا يزال ذكرها مألوفاً لأَسماعِ الناس حتى اليوم.

لقد لعب هؤلاء الحكواتيون أدواراً مُهمة في المجتمع، أولها: الترفيه والتسلية وخلق الفُكاهة، وكان هذا سبباً كافياً ليُسارع الناس بعد يوم عملٍ شاق للجلوس في المقهى أو المضافة أو ساحة القرية للسماع لهذا الحكاء الذي يُسليهم ويُزيل عنهم عناء يومهم وتعبه. وثانيها: صناعة الرأي والترويج له، وحين نُطالع السير الشعبية العربية التي كانت زاداً لأمسيات السّمر، وما تحمله فصولها من وقائع وأحداث ورسائل، نُدرك أهمية دور الحكواتي في المُجتمع، والأبعاد الخفية التي يصنعها وينقلها لجمهوره. لقد كان الحكواتي مُحركاً للتغيير وصانعاً للأمل ومعززاً للقيم المُثلى، وداعياً لإعلاء شأن البُطولة وتقدير التضحية والأبطال، ومُحفزاً على المُغامرة وركوب الأهوال. كلُ ذلك في قالبٍ طريف وسردٍ خفيف وأمسيات مُحببة. كما يمكنني القول إن لهؤلاء الحكواتيين دورا ثالثا لا يقلُّ أهمية عن سابقيه، وهو تقليل الصراع داخل المجتمعات ومنع حدوثه، وذلك من خلال انتقاد الأوضاع الاجتماعية والأحداث السياسية بطريقة فنية هزلية، وهو بذلك يكسر الجمود بين الطبقات والفئات وشرائح المُجتمع المُتعددة، ويحوّل مواقفهم وأخبارهم إلى قصص وطُرف ومزاح مُضحك ومقبول.

وقد ارتبط وجود الحكواتي وحضوره قديماً في المقاهي الوسعية والمضافات الفسيحة، وفي ليالي السَّمر صيفاً فوق العرائش وعلى البيادر وتحت الأشجار، وكذلك في الأمسيات الرمضانية، حيثُ يجتمع الناس حول الحكواتي ليستمعوا منه لملاحم البطولة وقصص المغامرات والحروب ومآثر الأجداد، كسيرة عنترة بن شداد، وحمزة البهلوان، وأبو زيد الهلالي، والزير سالم، والظاهر بيبرس، في جوٍ مهيب مشحونٍ بالحماس والاهتمام لمتابعة وسماع كُل كلمة، وعدم تضييع أي قصة أو حدث من السيرة التي قد تُروى على مدار شَهرٍ أو أكثر.

بل وأكثر من ذلك، فقد كانت المجالس اليومية للأهالي عامرةً بقصص الحياة وقضايا البلد، يتحدثون في كُلِّ شَيء، ويتناقلون أخبار مواسمهم ومحاصيلهم ومُسافِرِهم وغائِبهم، وفي هذه المجالس يكون الجَميعُ حَكاءً وله وقتُه ليحكي بعفويةٍ ودون تكلف أو حرج.

إن فن الحكي يقوم بشكلٍ أساسي على التفاعل بين الحكاء وجمهوره، ذلك أن الفن الحقيقي هو الذي يستطيع أن يَزدهر في وسط الناس، ويصبح جزءاً من حياتهم الاجتماعية، وقد شاع في الأرياف الفلسطينية ظاهرة ليالي السَّمر حيث يتصدر كبار السن ومن يُجيد سرد (الخراريف) والقصص صدر المجلس، وصارت هذه المجالس ديواناً للحكي والحكايات ومجلساً لبناء العلاقات والتفاعلات الاجتماعية داخل القرى والبلدات.

كل هذه الأهمية والمكانة الوظيفية للحكاء وحكاياته لم تسعف هذا الفن ليبقى رائداً وحاضراً في الحياة، حيث تأثر فن الحكي بعدة عوامل أدّت لتراجع حضوره، لعل أبرزها موجة الحداثة وتسارع دخول التكنولوجيا للبيوت، بدءاً بالراديو والتلفاز والفضائيات الكبرى، والسينما والأفلام، ثم الإنترنت وما صحبه من قنوات يوتيوب وفيسبوك وغيرها. وبذلك لم تبقَ للحكواتي ذاتُ المكانة بين هذه الوسائل الترفيهية، واختفى عصر الحكاية وزمن تبادل القصص والأحاديث اليومية. وصار الحديث عن الحكواتي والحكايات الشعبية وجلسات السَّمر؛ حديثا عن التراث الماضي والزمن القديم.

في مجتمعاتنا العربية التي لطالما احتفت بالحكي؛ لم تعد سيرة عنترة العبسي ولا بطولة الزير سالم تعني شيئاً للشباب والناشئة، وما عادت لمّات العائلة فرصة للحكي وتبادل القصص. لقد تغيّر عالمنا متأثراً بما حوله، وصار التغريب واقعاً في ظل غياب الوعي بضرورة التمسك بالجذور. وشغلتنا التكنولوجيا ومتطلبات الحاضر واللهاث خلف ثقافة القبيلة الأوروبية؛ عن الانتباه لما يصلح لمجتماعتنا دون سواها، كما يقول المعلم والتربوي منير فاشة.

لقد فقدنا العفوية والتطوع والعلاقة مع الأرض، وانتهى عصر دفء العلاقات المجتمعية، وغاب الحوار وتبادل الحديث، ودخلنا زمن الصمت وجلوس أفراد العائلة في غرفة واحدة، مُتقابلين ينشغل كلٌ منهم عن أخيه بعالمه الأزرق.

هذا التوصيف للحالة الراهنة التي نعيشها كان كافياً لدفع عدد من الناشطين ثقافياً والمؤسسات الفاعلة في مجال المسرح، كفرقة الورشة في مصر ومسرح البلد في الأردن، لتلبية دعوة الملتقى التربوي العربي المُنادية بضرورة استعادة الحكايات ودورها ووظيفتها في الفن والحياة والتعلم، وأن يعود لهذا الفن دوره الذي كان يلعبه، مع إدراكنا ووعينا بتغير وتطور المجتمعات وحاجاتها. ومن هُنا ولدت فكرة شبكة حكايا في العام 2006، داعيةً للعودة للجذور.

إن إعادة الحياة مُجدداً لفن الحكواتي هو صونٌ للتراث الشفوي وترميمٌ للذاكرة، بعيداً عن فكرة وضع التراث في المتحف وتكديسه في الكتب وعلى الأرفف، ذلك أن التراث يعيش في مجتمعه الشفاهي مُنتعشاً ومعافى وقابلاً للتطور والمُضي للأمام، بعيداً عن سطوة الأكاديميا وفكرة الأستاذية التي تفترض وجود نموذج واحد علينا الالتزام به.

تزداد أهمية الدعوة لاستعادة حضور الحكواتي والاهتمام بالحكايات وتبادل القصص فيما بيننا؛ كونها وظيفة تواصلية في عصرنا الحاضر أمام تعقيدات الحياة، وانشغالنا عن بعضنا البعض بالتكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعية غير الحقيقية على الأرض.

سعت شبكة حكايا خلال السنوات الماضية، من خلال الشركاء المؤمنين بأهمية الحكاية ودور الحكواتي، إلى إعادة إطلاق هذا المارد من قمقمه وإخراجه للحياة والمجتمع، من خلال المهرجانات والأمسيات والندوات ولقاءات الحكي الدورية. وأعتقد أنها وُفقت في ذلك إلى درجة كبيرة نسبياً، حيث صار الحكواتي اليوم فناً شائعاً ومعروفاً، وعاد الحكواتي تدريجياً إلى مكانه في المقاهي والساحات الثقافية المتنوعة.

أما فلسطينياً، حيث أتطوع وأنتمي، فإنني أقول إن الملتقى التربوي العربي من خلال فريق حكايا؛ بذل جُهداً مُميزاً خلال السنوات الماضية، سابحاً عكس التيار وحاملاً روح الحكايات إلى الفضاء المفتوح والمنصات الثقافية، يدفعه الإيمان بأهمية ما يفعل، وتسنده شبكة قوية من المؤمنين بهذا الفن وبأهميته للذاكرة الفلسطينية؛ تُقاتل على جبهة الهوية في مواجهة هيمنة المُستعمر ولصوصيته، الأمر الذي يجعل من فِعل الحكي عَملاً مُقاوماً يُسهم في ترميم الذاكرة وتحصينها من التآكل والذوبان.

ومما يجب ذكره فلسطينياً؛ دور المُعلم منير فاشة الذي حمل مِشعل الحكايات خلال السنوات الماضية داعياً لضرورة العمل على استعادة العلاقة مع الحكايات والأرض، وشعاره: نروي الحكايات.. نروي النباتات.

ولعل ما يجعلنا نؤمن بأهمية دور الحكاء فلسطينياً؛ هي طبيعة الحكايات التي يتم التعامل معها جمعاً وسرداً، ذلك أن هذه الحكايات على تنوعها وتشعب مواضيعها ومضامينها؛ تحمل غنى وقوة تمتد عبر الزمن حاملة معها إرثاً ثقافياً وتراثياً وقيماً مُتناقلة من جيل إلى جيل، تربط الإنسان بالأرض، وتُعمق من الصلة فيما بيننا كبشر، وتبني مُجتمعاً مُتكاتفاً قادراً على الصُمود والبقاء على الأرض، رغم كل سياسيات المُستعمر الصهيوني.

يحتاج فن الحكي إلى جهد ومزيد من الاهتمام والتطوير، وأن تكون هناك برامج وحملات جدّية تُنادي بعودته، وتبادل القصص، والاستغناء لوقتٍ أطول عن وسائل التواصل الاجتماعي لصالح جلسات الحكي والاستماع لقصصنا وتجاربنا وحكايتنا الشخصية، وهو ما نأمل أن يتحقق وأن يكون بمقدور شبكة حكايا أن تنجزه مع شبكة المهتمين والمؤمنين بفن الحكي عربياً.
التعليقات (0)