قضايا وآراء

الهويات المزيفة.. المفهوم والتداعيات (5)

إبراهيم الديب
1300x600
1300x600
الهوية هي أصل الشيء وجوهره وحقيقته، والمحرك الأساسي للإنسان والمجتمع، والمعيار المنظم له، وذاته التي يتميز بها بين الآخرين، ويعتز بها، ويحافظ عليها، وينميها ويطورها باستمرار، والتي تعبر عن ممكناته القادرة على الفعل والإنجاز الحضاري.

هوية الفرد هي الإجابة عن أسئلة:

- من أنت؟ وإلى أي ثقافة وحضارة تنتمي؟ وما هي سابقة أعمالك وإنجازاتك الحضارية؟

- ما هو نظامك الفكري والقيمي والسلوكي والأخلاقي؟

- ما هي مؤهلاتك العلمية، وقدراتك المهنية، وممكناتك على الفعل والإنجاز الحضاري؟

- ما هو حلمك لنفسك وللعالم؟ وما هي استراتيجيتك لتحقيقه؟

- من أنت في هذا العالم الآن؟ متبوع أم تابع؟ تحديدا، هل أنت من الدولة التي تقود العالم، أم من الثمانية المتحكمين، أم من العشرين الكبار، أم من الدول الصاعدة، أم من الدول النامية أم من الدول الفاشلة؟

وبالمثال يتضح المقال..

فهوية الياباني أنه يعتز بذاته اليابانية الخاصة، كما أنه يدمج خليطا من خصائص الأديان المختلفة، ذلك أن اليابان دولة متعددة الأديان، كما أن اليابانيين يمتلكون منظومة قيم خاصة بهم، قوامها احترام العلم والتكنولوجيا والابتكار، والعمل والإنتاج والإتقان والتحدي، والمنافسة والتصدير وغزو العالم بالمنتجات اليابانية... إلخ. فإذا ما جاء أحد وحاول وسم المجتمع الياباني بأنه مجتمع متكاسل ومقلد ومستهلك، فبطبيعة الحال سيكون ذلك تزييفا مكشوفا وفاضحا للحقيقة.

كما أن إسرائيل تحاول تقديم هوية وصورة ذهنية عن المجتمع الإسرائيلي بأنها دولة مدنية علمانية تقوم على أساس المواطنة، كما أنها في نفس الوقت تمثل دولة ذات أساس ديني تمثل التجمع القومي العالمي لليهود في العالم بوصفهم قومية جديدة متميزة لغويا وثقافيا، بمعنى أنه تم خلق هوية "إسرائيلية" مشتركة تضم كل فئات المجتمع، وترسخ فيه مقوّمات "الشعب".. هذه الهوية التي تحاول إسرائيل تعريف نفسها بها وتقدمها للعالم؛ هي بطبيعة الحال رواية مكذوبة وهوية مزيفة، وذلك ما تبين في العقود التي تلت قيام إسرائيل على أنقاض الكيان الوطني والقومي للشعب العربي الفلسطيني..

فإسرائيل النقية ذات التكوين القائم على صهر اليهود في بوتقة واحدة تحت مسمى "القومية اليهودية"؛ قد فشلت تماما، وإن الاعتراف باليهود كقومية جديدة مُتميزة لغويا وثقافيا عن بقية السكان فشلت بدورها، فهي الأكذوبة الكبرى، كما هي أمرٌ منافٍ للمنطق والعقل. فاليهودية في نهاية المطاف دين وليست قومية، كما أن إسرائيل تعاني أزمة هوية شاملة تتصل بطبيعة تكوينها كخليط عرقي إثني متعدد، حيث يُمثل اليهود الشرقيون حوالي نصف يهود إسرائيل، والنصف الآخر من اليهود الغربيين الذين جاؤوا من حضارات مُختلفة عن الحضارات الشرقية. كما تأكد أن مشروع بن غوريون لصهر المجتمع الإسرائيلي المكون من خليط من الهجرات المتنوعة قد فشل فشلا ذريعا، حيث يعيش المجتمع الإسرائيلي حالة من الهويات المتعددة المتصارعة، وليست هوية ولا شعبا واحدا، فمجتمع مكون من قوميات متنوعة، لكل منها هويته الخاصة المختلفة عن بقية المهاجرين.

كما أن الهوية التي فرضتها النظم العربية المستبدة من قبل، من اختزال لهوية وممكنات المجتمع الحضارية على العلم والنشيد والزعيم والانتماء لنظام الزعيم، والتي تحاول أن تفرضها الآن على شعوبها؛ استجابة لمتطلبات تفكيك المنطقة وإعادة رسمها بشكل جديد من الاستسلام والضعف والفشل والاستهلاك والاستيراد والعيش عالة على حماية الدول الأخرى الناجحة القوية، والعيش على استهلاك إنتاجها الفكري والمادي، والتبعية الكاملة والدوران في فلكها، بمعنى تصوير المواطن العربي بالعاطفي المتحمس المغيب عن الوعى الذى كان يهرول خلف صورة سيارة الزعيم مناديا بحياته؛ المواطن الجاهل الضعيف المهين الذليل المستخدم كعامل لدى أسياده ملاك المنطقة.. هذه الهوية مزيفة، ولا تعبر عن الهوية الحقيقية لشعوب المنطقة العربية التي تمتلك مكونات أقوى هوية في العالم، وهي الهوية الحضارية العالمية الإسلامية التي نشأت ونمت في المنطقة العربية، والمكونة من معتقدات الأديان السماوية الثلاث التي عرفتها البشرية، ومن إنتاج فكري بشري عميق متمازج مع كافة ثقافات وحضارات العالم، ومن حضارة عريقة حكمت العالم وحافظت على موروثاته الحضارية وأضافت إليها الجديد.

يبقى السؤال المهم: لماذا يذهب البعض لتزييف هويته؟

بطبيعة الحال، يختلف الأمر في كل حالة من الحالات بحسب الواقع وأهدافه، حيث تسعى الدول الكبرى المستقرة دائما إلى تحسين جودة هويتها باستمرار، وإعلاء صورتها الذهنية عالميا، فتضطر إلى تزييف هويتها بإضفاء مقومات وعوامل الوجود والاستقرار والنمو والعظمة والهيمنة... إلخ، في مقابل أن تسعى النظم المستبدة لتعزيز ثقافة قيادة القطيع، عن طريق المزيد من تجهيل وتفكيك قيم وهوية وممكنات يقظة وحيوية ومشاركة شعوبها، للمحافظة على كرسي الحكم، وموارد الثروة، وهي بذلك لا بد أن تقدم فروض الولاء والطاعة وتكاليف الحماية وضريبة التبعية للدول الكبرى.
التعليقات (0)