قضايا وآراء

لغة عصر المعلومات

يحيى اليحياوي
1300x600
1300x600
ليس من الضروري في شيء (ولا من المفروض أيضا) أن يكون المرء عالما لغويا فذا أو ضليعا في بنيات اللغة ووظائفها حتى يتسنى له التسليم، ولو جدلا، بأن عصر العولمة والثورة التكنولوجية، وانفتاح الأسواق والاقتصادات، وتطور الشبكات الإلكترونية، وتزايد مظاهر البث التلفزي العابر للحدود، وغيرها، قد وضع الثقافة واللغة على المحك، ولربما أكثر من أي وقت مضى.

والواقع أن هيمنة بعض من لغات العالم على عمليات التبادل الاقتصادي والإنتاج المعرفي والتكنولوجي، وتنقل التيارات الرمزية على نطاق شبه كوني، واجتماعات المنظمات الدولية، وملتقيات البحث والفكر، وما سواها، هذه الهيمنة لم تعد مكمن إجماع عام حول حقيقتها المؤكدة، بل أضحت تقدم باعتبارها "تهديدا" للحق في التباين والاختلاف، و"خطرا" على "هويات" الأفراد والجماعات بهذه المنطقة من العالم، كما بتلك.

وسواء أكانت اللغة هنا وسيلة اتصال وتواصل وأداة تبليغ وتبادل للمعلومات والمعارف، أم كانت تعبيرا عن ثقافة، أو عن هوية أو عن علاقات قوة، فإنها أصبحت في الحالتين معا تسائل ذات "الحق"، وتستفهم في مستقبل "الهويات" إياها على ضوئه وتحت قوة محكه.

وعلى الرغم من كون التمييز أعلاه يبقى إجرائيا خالصا، باعتبار اللغة أداة اتصال وتواصل، ومكمن تمثلات رمزية للأفراد والجماعات، فإن القائم الثابت راهنا أن الجانب الأول من المعادلة هو الموضع أساسا في الميزان، بحكم عولمة الاقتصادات، وانفجار الشبكات المعلوماتية وتعدد مصادر الأخبار والمعطيات، وما سوى ذلك.

ليس من الغرابة في شيء إذن، بناء على هذا، أن تضحى اللغة الإنجليزية، وبكل المقاييس، لغة العولمة القائمة ولغة التيارات الرمزية المقتنية لذات الشبكات، بل قل لغة "الثقافة" السائدة شكلا كما في الجوهر.

لا يتأتى "تفوق" اللغة الإنجليزية، فيما يبدو، من تفوق ما في بنيتها الداخلية أو توفرها على سمات مميزة لها عن باقي لغات العالم، ولكنه يتأتى لها كون الدولة الثاوية خلفها (الولايات المتحدة الأمريكية) انفردت دون سواها؛ بسلطان القوة الاقتصادية والمالية والتكنولوجية والعسكرية والسياسية، وسلطان البحث العلمي والتطوير التكنولوجي وغيرها.

بالتالي، "فعولمة" اللغة الإنجليزية المتزايدة لدرجة أضحت معها لغة التخاطب العالمي ولغة المبادلات الكونية، إنما هو رديف منطقي، وإلى حد بعيد، لعولمة في الاقتصاد والمال والأعمال والبحث والتكنولوجيا تدفع بها الولايات المتحدة في المنظمات الدولية، كما في المنظمات الجهوية، كما في علاقاتها مع الدول والشركات.

تقول منظمة اليونسكو بهذا الصدد: "إنه أضحى من الضروري أخذ المشكل اللغوي في الاعتبار فيما يتعلق بتكوين التجمعات الاقتصادية الجهوية الكبرى، كالنافتا والميركوزير والآزيان والاتحاد الأوروبي، وغيرها. إن فكرة البنية اللغوية كحجر أساس للبناءات الجهوية بغرض تقوية التضامنات والحؤول دون الصراعات مهمة للغاية، تماما كما هو الشأن بالنسبة لمسألة منظومات بنى النقل والطاقة والاتصالات التي غدت ذات أهمية كبرى على المستوى الاقتصادي والاجتماعي".

ما من شك إذن في أن تزايد مد العولمة اللغوية تزامن وتزايد النزعة بجهة التكتل الجهوي، والذي يعتبر في الآن ذاته رافعة لذات العولمة، ووقوفا في وجه طغيانها على المستوى الاقتصادي والسياسي والثقافي والأمني وما سواها.

وهو أمر لا يمكن تلمس مظاهره الكبرى على مستوى السياسات اللغوية المعتمدة من لدن كل تجمع فحسب، بل أيضا على مستويات أخرى تتجاوز البعد الترابي للمسألة أو طابعها الجغرافي الخالص، لتطال البعد الجيوستراتيجي والثقافي، كما نلاحظه في حالتي الفرنكفونية والإسبانوفونية والأنجلوفونية وغيرها.

ولئن غدت المسألة اللغوية، في عصر العولمة وانفجار التيارات الرمزية على المستوى الكوني، رهانا كبيرا في العلاقات بين دول ومناطق العالم، فليس الباعث في ذلك كون اللغة باتت أداة اتصال وتواصل ووسيلة نقل للمعارف والمضامين، ولكن أيضا لأنها تجر من خلفها رهانات ثقافية وهوياتية ضخمة، لا تختزل لحد الساعة إلا في مظاهر ثانوية غير ذات قيمة كبرى تذكر.

والسر في ذلك كامن بالأساس في أن اللغة لا تصلح فقط لتمرير المعلومات المصاغة خارجها، ولكنها تمارس أيضا آثارا على بنية المعارف المصاغة داخل نشاطات ذهنية، ووفق تداخل اجتماعي بين مختلف المتدخلين... فليست الكلمات في حد ذاتها التي تعبر وتوجه تمثلا للعالم، ولكن أيضا أنماط ترتيبنا للكلمات والجمل في الخطاب.

ومعنى هذا أن العولمة اللغوية متصاعدة المد، لا تضع اللغة كأداة في المحك، بل أيضا في كونها أضحت ملتقى حقيقيا للعلم والتقنيات، للتربية والثقافة والاتصال، وهو ما سينعكس حتما على إمكانات الوصول للثقافة ونشرها وإعادة إنتاجها. العولمة اللغوية هنا ليست هدفا (في حد ذاتها) بقدر ما هي (على الأقل بالنسبة لقطب العولمة الأوحد) وسيلة لبلوغ أهداف محددة ومرامي مقصودة تكون اللغة بداخلها الأداة والرافعة لا العكس.

والقصد من هنا إنما القول بأنه لو سلمنا بأن الثقافة (في التحديد الأمريكي لها) إنما هي سلعة كباقي السلع، ولو سلمنا بأن "السياسة الثقافية" الأمريكية إنما تتمثل في الدفاع المستميت على مصالح صناعاتها الثقافية، فإنه لن يتعذر التسليم بالتالي بأن اللغة في كل ذلك، إنما هي عنصر لنشر منتجات ذات الصناعات وترويجها على نطاق واسع، وليست شيئا آخر.

وعلى هذا الأساس، فاللغة الإنجليزية من هنا إنما تعولمت لأنها أولا لغة القوة الكبرى في العالم، وثانيا لأنها أضحت في الآن ذاته لغة ذات العولمة تفسح لها في المجال واسعا، تفتح لها الأسواق، ولا تتوانى في استقطاب الأفواه المستهلكة لما تنتجه وتعرضه بذات الأسواق.

يبدو لنا أنه أضحى من شبه المؤكد أنه لا يمكن فصل اللغة والثقافة عن التحولات الكبرى التي تعرفها منظومات المعلومات والمعرفة والاتصال، كما أضحى في حكم المؤكد أن الإشعاع اللغوي هو أيضا وبالأساس من الإشعاع الثقافي، وأن إدراك هذا الأخير لا يمكن فصله عن الواقع الاقتصادي والتكنولوجي والعلمي والسياسي، وما إلى ذلك.

بالتالي، فانبعاث وتكريس النظام التكنولوجي الجديد المتفرع عن ثورة تكنولوجيا الإعلام والاتصال لا يبدو لنا مسائلا للغة بقدر ما هو مسائل للثقافة أيضا. ومعنى هذا أن اللغة لا تعدو هنا سوى كونها وسيطا بين الثقافة وذات النظام، ولن يكون لها في ذلك من دور كبير يذكر، اللهم إلا ما تقدمه لها الثقافة أو ما يتسنى لها ترويجه بداخل الشبكات.

ومعناه أيضا أن الاندماج المتزايد للمعطى والصوت والصورة في منظومة واحدة موحدة، تتفاعل انطلاقا من نقط متعددة... داخل شبكة كونية بالإمكان بلوغها دون تكاليف كبرى... هذا الاندماج إنما سيحول حتما طبيعة الاتصال... وهذا الأخير سيدفع بدوره بجهة إعادة تشكيل الثقافة بشكل جذري، ما دام أن الذي نراه ليس هو الواقع، وما دام أن اللغة باتت أداة وسائل الإعلام والاتصال بامتياز.
التعليقات (0)

خبر عاجل