قضايا وآراء

توفيق النمري يحتضن المكان الأردني برموز الموسيقى

خليفة كيوان
1300x600
1300x600

يعيش توفيق النمري في داخلي رجلا يلبس المعطف الضباطي، ويحمل في جيبه آلة تسجيل يطوف في جو ماطر أرياف الشمال الأردني، يسجل ويستقصي أغاني الفلاحين في مواسمهم المختلفة ويرصد أحزانهم وأفراحهم، همومهم المختلفة، يسجل أحلام هذه البقعة من الأرض ثم يعود إلى بيته الحجري في قرية الحصن ويمسك عوده ويسجله من جديد يضيف نوته هنا وتغزيله هناك فتمتزج روحه مع روح الأرض التي أحبها وعبدها حتى آخر لحظاته.

 

تقول الويكيبيديا إنه ألف أكثر من 750 أغنية ولا يسعفنا النت بغير بضع وعشرين منها. يقال إنه أف ولحن هموم الناس بأغاني عبرت عنهم بكل صدق ولا نجد لها أثرا.. هكذا تصنع الشعوب أساطيرها بالمتاح نجد أن وديع الصافي غنى له أغنية البنت الريفية، وكان لحنها عام 1949 غناها وديع الصافي وكان في بداية توجهاته نحو التراث الشامي مؤلفا ومغنيا قبل أن يلتحق ويكون مع الرحابنة مدرسة جديدة. ثم غنى له حسنك يا زين. طريقة أداء وديع الصافي تضفي عليها طابعا جبليا يعتمد على امتداد وضخامة الصوت وقراره وهذا يختلف عن أداء النمري الذي يعتمد على الجواب وامتداده الذي يحاكي امتدادات السهول الحورانية.


في الستينات والسبعينات كانت أغاني النمري تزين عرائش إربد وكانت تصب مع القهوة في شوارع سوق الحلال في إربد وعند مساومات تجار القمح والشعير وأخيرا تنداح عرسا من فرح تفيض به ليالي العقود والزواج والمناسبات الفلاحية.

روح الفلاح الإربدي ذي الأصول القروية المتطلع لروح مدنية وليدة هي التي ميزت روحه وعبر عنها هي التي كانت هاجسه عبر إبداعاته المترامية عبر 750 أغنية ومسيرة طويلة من الفن الصادق موسيقيا.

ماذا يمكن أن يعبر عن ذلك؟؟؟

الشبيبة ( آلة قريبة من الناي) تصنع من القصب وتثقب خمسة ثقوب توضع على زاوية الفم وينطلق عبرها نفس حريري تتموضع فيه الأحزان والأفراح وتمتزج بخليط لا تحس إلا أنه التجانس بحد ذاته ... الشبيبة هي أداة النمري بالتعبير عن الريف الأردني وقد طوره ليقدم طلعات ونوت موسيقية مركبة أكثر من استعماله البسيط في الريف.

كلمات الأغاني في معظمها جاءت مطورة عن اللهجة الريفية لتعبر عن تطلع هذه المدينة إلى روح مدنية، وهوية متحضرة جديدة بتأثير الهجرات عليها و وسائل الاتصال التي بدأت بالانتشار ومن أهمها الراديو.

الربابة آلة ذات وتر واحد رمز بها النمري للبادية وامتدادها في الثقافة الأردنية، كانت البادية حاضرة دائما في وجدان الأردنيين، دخلت عبر التعاملات التجارية وعبر الحروب بين الريف والبادية عبر التاريخ الأردني.

 

الأوكورديون في بعض الأعمال عبر به عن الثقافة الشركسية التي كونت وبجدارة جزءا من ذاكرتنا الثقافية  أشير إلى طريقة العزف وليس استخدام الآلة بحد ذاته، لتختبر ذلك عبر إحدى أهم الأعمال لتوفيق النمري.


أغنية دخلك يا زيزفونة. ركزوا معي بالمقدمة الموسيقية حوار ملتاع بين الربابة والشبيبة تبدأ الشبيبة بإنشاد جملة افتتاحية ترد عليها الربابة وتستمر الربابة بأداء اللحن.. تجيب عليها الشبيبة. تعاود الشبيبة الإنشاد وبوتيرة أعلى تجيبها الشبيبة وهنا يدخل صوت النمري بقوله دخلك يا زيزفوني.

كلمات تتأثر بالمحكية المدنية الفلسطينية أرجح أن كلمات هذه الأغنية كتبت إبان إقامة النمري في رام الله وعمله في إذاعة صوت الشرق هناك، والزيزفون اكثر انتشارا في الريف الفلسطيني، ذكّره الزيزفون بمحبوبته في الحصن:  الزيزفونة في رام الله والمزيونة في الحصن!

بين ما ليام تروح بفطن لوليف الروح 
تعزف هذه الجملة الشبيبة بجدارة وترد عليها الربابة
لا تلوموا هالمجروح بهوى المزيونة
ياشجار الزيزفون حني عقليبي الحنون
يا خوفي لصبح مجنون بهوى المزيونة

ياما والدنيا غروب افطن لغياب المحبوب
خايف هالقلب  يذوب بهوى المزيونة

أما في أغنية شفتك يا غزال.. البداية تردد الأوكورديون بجملة موسيقية سريعة تحاكي العزف الذي نسمعه في رقصات الشركس الشهيرة... بعد هذا المدخل يختفي الأوكورديون تماما في مساحة الأغنية تماما ولا يظهر أبدا... لكنه يقول شفتك يا غزال.. قلبي هالميال حبك... عندك يا عند المحبوب وعيونك عيونه واللي رمشه يصيد قلوب حرام يصيدونه... يا مشابه حبيب الروح... بالسلامة روح روح... افرح ببريتك واتهنى بحريتك.. افرح ببريتك واتهنى بحريتك يا غزال يا غزال.. فكرة الأغنية تتحدث أن العاشق رأى ظبيا في البرية وشابهه بمحبوبه وعاش لحظة عشق فرحة لا مكان للحزن فيها تتمشى عبر هذا اللحن البهيج، لكنه بمدخل الأوكورديون يضيف طبقة ثانية للمعنى بعد أن كان في غابه ورأى ظبيا أو فتاه جميلة من الشركس تجلى له محبوبه في نسيج يجمع بين الثلاث الظبي الفتاه والمحبوبة الحقيقة منذ العزف الأول تنتهي وظيفة الرمز الأول الموحي، ثم يتناغم الرمزان عبر مساحة الأغنية كلها وبتكرار وتناوب مدهش ومثير للبحث والسماع... توفيق النمري جعل من الآلات الموسيقية رموزا وأشخاصا تتكلم وتعبر عن لواعج الشوق هناك.

0
التعليقات (0)