قضايا وآراء

الاستبداد تشويه للانتماء وضياع للهوية

جلال زين الدين
1300x600
1300x600
لا تقتصر مساوئ الاستبداد على قمع الحريات وسلب العباد إرادتهم والتحكم بمصائرهم، وتدمير البلاد وتسخير مقدراتها لشخص أو فئة مستبدة، فما سبق هو الجزء الظاهر والمباشر لآثار الاستبداد، أمّا الآثار البعيدة فقد تتجاوز تدمير البلاد لإزالتها.

فالمستبد لا يمارس سياسة؛ لأن السياسة كما عرّفها الكواكبي هي إدارة الشؤون المشتركة بمقتضى الحكمة. وهذا أبعد ما يكون عن فكر المستبد، وليت الاستبداد في بلادنا كان مثل ما عرفه الكواكبي (تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف تبعة)، فالاستبداد الحالي تجاوز التصرف في كل الحقوق، بما فيها حق الحياة، فهو يحاول خلق دين آخر يكون فيه المستبد الحاكم معبودا من دون الله، فكل ما يصدر عنه هبات وعطايا "إلهية" ينبغي حمده وشكره عليها، وإن كانت هذه الهبات كوارث ومصائب، وبذلك ينحدر لأسوأ أنواع الاستبداد، "فأشد مراتب الاستبداد التي يتعوذ بها من الشيطان هي حكومة الفرد المطلق الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية.

قد يبدو ما سبق كلاما مستهجنا وضربا من المبالغة؛ لولا أنّ الحقائق على الأرض تصدقه وتدعمه. ونبدأ من كوريا الشمالية التي يتضوّر شعبها جوعا بسبب حكامها، لكن شعبها ينظر لهؤلاء الحكام كمخلّصين، خلافا لجيرانهم الجنوبيين الذين يرفلون برغد العيش ويحاسبون حكامهم على كل شاردة وواردة، باعتبار المناصب تكليفا لا تشريفا. فانعدام المحاسبة أول خطوة في طريق الاستبداد، و"الحكومة من أي نوع كانت لا تخرج عن وصف الاستبداد ما لم تكن تحت المراقبة الشديدة والاحتساب الذي لا تسامح فيه".

وفي بلادنا العربية، رأينا وأبصرنا ما فعله الأسد بالشعب السوري من قتل وتهجير وتدمير، ويأتي بعد ذلك طيف من السوريين ليصوّر هذه المخازي على أنها أمجاد وبطولات، فينعتونه بباني أمجاد سوريا، بل ينسبون الوطن إليه (سوريا الأسد). وليست مصر بأفضل حالا، فالسيسي الذي انقلب على إرادة الشعب المصري وآماله ببناء وطن حر؛ فَعَلَ بالمصريين ما لم يفعله استبداد من سبقه في العصر الحديث، بدءا من مصادرة الحريات وملاحقة الأحرار، وليس انتهاء برفع أسعار المحروقات والتنغيص على المصريين في لقمة عيشهم. ورغم ذلك، تجد طيفا - وإن كان قليلا - ما زال يعتبره القائد المخلّص المُلهم بالصواب دائما.

يعمل الاستبداد في بلادنا على جعل شعوبها شبيهة بالشعب الكوري الشمالي، فالفئة التي تنظر للمستبد في بلادنا نظرة قداسة ما زالت قليلة جدا مقارنة مع كوريا الشمالية، لذلك يجهد المستبد في بلادنا على زيادة نسبتهم؛ لأن ذلك الأمر الوحيد الذي يضمن استمرار حكمه.

ولا يتأتّى ذلك الأمر إلا بتغييب العقل الإنساني للشعب؛ لأن العقل الميكانيكي ضروري لحماية مزرعة الاستبداد، فالسلاح يحميه من عدوان خارجي وتمرد داخلي، وأجهزة المراقبة والتجسس تراقب المواطنين وتعد عليهم أنفاسهم، والتقنية الحديثة تساعد في عزلهم عن العالم الخارجي، وذلك ضروري لإقناعهم بخطابات الزعيم، خلافا للعقل الإنساني المهتم ببناء الإنسان، لذلك يعمل الاستبداد على تغييب العقل الإنساني من خلال ملاحقة الأحرار عبر أربعة طرق: القتل أو السجن أو التهجير أو الإسكات. فهذه الفئة بمثابة الجمر المختبئ تحت الرماد، والخطوة الثانية تتمثل في صنع حاشية جديدة تقدسه وتدور في فلكه ويرتبط وجودها باستمراره، وتكون أدنى من "إمّعة". وهذا ما فعله بشار الأسد عند تسليمه الحكم، فأبعد عبد الحليم خدام ومصطفى طلاس وكبار الضباط الذين كان لهم دور في وصوله. والأمر ذاته صنعه السيسي، فأزاح وزير الداخلية ووزير الدفاع جديدين، وأسند المناصب لرجال صنعهم هو كبدلاء عمّن شاركه الانقلاب، ناهيك عن مجالس الدمى "الشعب"، سواء في سوريا أو مصر.

بعد أن يتحقق للمستبد هذان الأمران، ينتقل للمرحلة الثالثة التي تمهد لإعطائه صفة القداسة (سلطة إلهية) في نظر الشعب الذي يريد أن يجعل أفراده عبيدا؛ يحمدونه على مخازيه ويمجدونه على ضلالاته ويسبحونه على نقائصه. ففي هذه المرحلة لا صوت يعارضه ولا قوّة تردعه أو تنافسه أو تخيفه، وتتطلب هذه المرحلة التشكيك بالثوابت والمعتقدات لإزالتها بداية، والتمهيد للعقيدة الجديدة ولا يتأتى ذلك عبر شهور أو بضع سنوات، ولا سيما أننا في عالم منفتح. ولكن غباء المستبد عندنا يجعله يحث الخطى مسرعا، اعتقادا منه أن حرق المراحل ممكن، ولا سيما أن القوى الدولية تدعمه وتشد على عضده.

ونضرب هنا مثلا النظام السوري الذي حكم قرابة نصف قرن بعقيدة "البعث" المُقدِّس للعروبة والانتماء العربي، فهذه العقيدة لم تعد صالحة لاستمراره، فأعوانه إيرانيون وروس ليس لهم علاقة بالعروبة، ورغم ذلك تجد إعلامه يفرح لفوز الفريق الإيراني على الفريق المغربي العربي في نهائيات كأس العالم، بل يشمت بالفريق السعودي ومهنئا الروس، واصفا فريقهم بالفريق الشقيق، في إشارة غير خافية إلى أنّ مقياس الانتماء والأخوة هو مصلحة الحاكم. وفي السياق نفسه، يعمل السيسي وإعلامه على تقديم الإسرائيليين الصهاينة على أنهم أصدقاء، وتشويه صورة المقاومين الفلسطينيين، في تنكّر وتجاهل واضح لتاريخ الشعب المصري الداعم للعرب عموما ولفلسطين خصوصا. وتعد مرحلة التلاعب بالهوية وتغيير الانتماء أخطر ما يفعله الاستبداد؛ لأنها تعني زوال الأمة من أجل الفرد.

لا يقتصر هذا الاستبداد على سوريا ومصر، بل يشمل بلادا عربية أخرى قد يختلف الاستبداد عنها شكلا لكنه يماثلهما جوهرا.

إن نجح الاستبداد في الاستحواذ على السلطة والاستفراد بها، والتحكم في مقدرات البلاد، وإضفاء هالة دينية عبر مشايخ فاسدين اشتراهم، فإنّه لن يفلح في تغيير هوية الأمة وزعزعة انتمائها، ولن ينجح في جعل الاستبداد دينا لأمّة دينها "وَأَمْرُهُمْ شُورَى? بَيْنَهُمْ" (سورة الشورى - 38). فهذه أمّة حيّة تمرّ عليها لحظات وَهَن وفتور، لكنّها سرعان ما تنهض ليتلاشى الاستبداد، ويذهب المستبدون لمهامش التاريخ غير مأسوف عليهم.
التعليقات (0)