مقالات مختارة

مسيرات العودة إلى الطنطورة

عوني فرسخ
1300x600
1300x600

خلال السنوات الأربع الماضية توالت المسيرات إلى موقع بلدة الطنطورة، على شاطئ البحر جنوبي حيفا، تحت شعار "عائدون يا طنطورة"، وقد ضمت أحدث تلك المسيرات المئات من مواطني الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1948. 


من القدس والمثلث والجليل، شيبا وشبانا وأطفالا، ذكورا وإناثا، رافعين أعلام فلسطين مؤكدين التزامهم بالثوابت الوطنية، وبالذات عروبة القدس وحق العودة، مرددين الأناشيد والهتافات الوطنية. وكانت الطنطورة أواخر عهد الانتداب البريطاني على فلسطين بلدة مزدهرة، تضم نحو ألف وسبعمئة نسمة. وقد تعرضت في 21/5/ 1948 لهجوم من القوات "الإسرائيلية"، فخاض مواطنوها شيبا وشبانا، بأسلحتهم المحدودة، معركة استشهادية في مواجهة قوات الغزو، التي ارتكبت بعد استيلائها على البلدة واحدة من أبشع المجازر التي اقترفها العدو خلال حرب 1949/1948. 


وحسب شهادة أحد أبناء الطنطورة في أثناء المسيرة الأخيرة، أنه بعد توقف مقاومة البلدة اختار قادة العدوان مئتين وخمسين شابا، قسموا إلى مجموعات، تضم كل مجموعة عشرة شباب، كانوا يؤمرون تحت تهديد السلاح بحفر قبورهم، ثم يجري إعدامهم، ولقد خلدت الروائية المبدعة رضوى عاشور في رواية "الطنطورية" مقاومة مواطني البلدة المنكوبة، شيبا وشبابا، ذكورا وإناثا، في واحدة من أبلغ الروايات العربية التي تناولت أحداث النكبة.


ويذكر الباحث العربي د. سلمان أبو ستة، المختص في قضية اللاجئين وحق العودة، أن المجازر التي تحقق المؤرخون من وقوعها هي خمس وثلاثون مجزرة، وهناك مجازر عديدة أخرى، كما قدم توصيفا للكيفية المعتمدة في التعاطي مع ضحايا الإرهاب الصهيوني، وذلك استنادا إلى أبحاث المؤرخين الإسرائيليين واليهود الجدد، وتقارير مراقبي الهدنة، الذين شاهدها بعضهم وحقق فيها البعض الآخر. فهو يقول: «كانت القوات «الإسرائيلية» تطوق القرية من جهات ثلاث، وتترك الرابعة مفتوحة، وتجمع النساء والأطفال في مكان منعزل، ثم تطردهم باتجاه لبنان، بعد تجريدهم مما لديهم من المصاغ والنقود. أما الرجال فينُتقى منهم عدد يُرمى بالرصاص في دفعة واحدة أو دفعات، ويؤمر بعضهم بحفر القبور لدفن الجثث، ويؤخذ الأقوياء منهم إلى معسكرات سخرة، ليقوموا بنقل أحجار المنازل العربية المهدمة، حيث يبقون هناك لعدة شهور، ويخرج الآخرون مشيا على الأقدام نحو حدود لبنان. 


ويذكر المؤرخ "الإسرائيلي" بني موريس أن بن غوريون بدءا من نيسان/أبريل 1948 عمل على وضع خطوط أساسية لرسالة الترحيل "الترانسفير"، وأوضح أنه لا يوجد أمر خطي صريح منه بهذا الخصوص، وإن كانت فكرة الترحيل موجودة، وأن القيادة برمتها كانت تعي هذه الفكرة، والضباط يفهمون المطلوب.


وكان الباقون في الأرض العربية التي احتلت سنة 1948 قد أخضعوا للحكم العسكري، الذي تواصل العمل به حتى عام 1966. إلا أنهم لم يستسلموا للأمر الواقع، ففي عام 1959 تشكل تنظيم "جماعة الأرض" معتمدا النضال السياسي - الاجتماعي. وفي سياق النهضة الوطنية لعرب الأرض المحتلة حينها تشكلت سنة 1969 «حركة أبناء البلد» التي عارضت قرار التقسيم، وطالبت بعودة اللاجئين إلى ديارهم واستردادهم أملاكهم والتعويض عليهم. 


ولقد شكل إضراب "يوم الأرض" في 30 آذار/مارس 1976 انعطافا في واقع الصامدين في الأرض المحتلة سنة 1948، في مجال التنظيم والعمل السياسي، والتعبير عن الهوية القومية، ومطالبة "إسرائيل" الاعتراف بهم كأقلية قومية. 


وحين النظر بموضوعية لمسيرات العودة إلى الطنطورة التي توالت خلال السنوات الأربع الماضية، بما حفلت به هذا العام من مشاركة المئات من القدس إلى حيفا، مع غلبة الجيل الرابع من مواليد ما بعد النكبة، وما شهدته من رفع الأعلام الفلسطينية، وإعلان تضامنهم مع مسيرات عروبة القدس وحق العودة وكسر حصار قطاع غزة، التي توالت في قطاع الصمود والتصدي منذ إحياء ذكرى يوم الأرض في 30/ 3 / 2018.


كل ذلك يدل بوضوح تام على التطور الكيفي في معرفة ووعي وإرادة وقدرات وعزم مواطني الأرض المحتلة منذ عام 1948، وأنه ليس من المغالاة القول بفشل الممارسات العنصرية «الإسرائيلية» في قهر إرادتهم والتزامهم الوطني ما يؤشر لاحتمالات مستقبلية واعدة.

 

صحيفة الخليج الإماراتية 

0
التعليقات (0)