مقالات مختارة

عداء التيار الصدري لإيران وهم متجدد

وائل عصام
1300x600
1300x600

عندما التقيت مقتدى الصدر في الكوفة أواسط أبريل 2003 في أول ظهور له على الشاشة، كان الشاب الصاعد سليل العائلة الصدرية قد أجهز قبل يومين، على أول خصومه داخل البيت الشيعي، إذ تمكن أنصاره في النجف من قتل عبد المجيد الخوئي رجل الدين الشيعي القادم من لندن، ضربا وسط شوارع النجف بـ«القامات» والسيوف، وهو الذي بدأ فور عودته للعراق بجمع من أطلق عليهم «التكنوقراط» للعمل معهم بعد سقوط نظام صدام حسين.


ورغم أن الخلاف يعود لأسباب عديدة، لا مجال لذكرها هنا، لكن هذا المشهد يمثل أول مواقف التيار الصدري تجاه التيار الشيعي المقرب من التكنوقراط والمدنيين، الذين رغم ضآلة قاعدتهم الشعبية، استخدمهم الصدر أدوات تجميل لتياره الطائفي الفائز بالانتخابات اليوم.


لم يكن الصدام مع الخوئي سوى فاتحة النزاعات بين تيار الصدر، الذي يمثل فقراء الشيعة وباقي التيارات الشيعية التقليدية، في امتداد للخلاف القائم بين ما يسمى الحوزة الناطقة التي نظر لها والد مقتدى، المرجع الشيعي محمد صادق الصدر، والحوزة الصامتة التي عنى فيها حينها، المرجعيات الشيعية المنافسة له في قم والنجف، هذا الخلاف الذي وصل ذروته باغتيال محمد صادق الصدر في العراق، في هجوم كثيرا ما يتهم فيه نظام صدام، رغم أن الكثير من الشهادات والدلائل تشير إلى أن المسؤول عن اغتياله هم منافسوه الشيعة الذين كان ينبزهم بالحوزة الصامتة، خصوصا بعد خطوته غير التقليدية بإقامة صلاة الجمعة في ظل حكم صدام، وهو ما سبق وأكده لي اثنان من قادة التيار الصدري بعد سقوط بغداد.


قيس الخزعلي نفسه، الذي كان العقل المدبر للتيار الصدري بعد الاحتلال، كثيرا ما أخبرني خلال لقاءات عديدة في «براني النجف» عن روح العداء المتفشي بين الصدريين وتياري الحكيم والدعوة المقربين من إيران، وعن ميول الشباب الصدري «الوطنية». هذه الطروحات كانت تثير أسئلة جدية عن قدرة رابطة ما على منافسة الروح الشيعية الراسخة في نفوس أبنائها لقرون، وعن إمكانية فصل حركات التشيع في المنطقة عن حبلها السري في طهران، عقديا وسياسيا، رغم خلافات البيت الشيعي الواحد، وهذا ما تبين لاحقا مع الخزعلي نفسه وزميله الكعبي، اللذين أصبحا قادة أكبر مليشيات موالية لإيران خرجت من رحم التيار الصدري وأبرز مساعدي مقتدى الصدر.


كثيرون ظنوا تحويل الصدر لحليف شيعي ضد إيران أمرا ممكنا، خصوصا بعد تصاعد الخلافات بين الصدريين وأنصار التيارات الشيعية في النجف، ووقوع مواجهات محدودة بين جيش المهدي والولايات المتحدة في النجف والكوفة ومدينة الصدر، خلال العامين اللذين أعقبا سقوط بغداد، في وقت كانت المقاومة العسكرية للاحتلال تشتعل في المناطق السنية، ما ولد شعورا بإمكانية التعاون والتنسيق بين المحورين المعارضين للاحتلال، وبناء على هذه الخلافات الثانوية، بنت حركات سنية آمالا عريضة على التيار الصدري، متجاهلة التباين الطائفي العميق وتاريخ الحركة الصدرية، التي رغم نزاعاتها السلطوية مع غرمائها، إلا أنها تلتقي مع الحركات الشيعية في منطلقاتها الرئيسية وأهدافها ومرجعيتها الحديثة في العراق التي أطلقها محمد باقر الصدر، الزعيم الشيعي الذي أيد ثورة الخميني بمقولته: «ذوبوا في الإمام الخميني كما ذاب هو في الإسلام» قبل أن يعدمه صدام حسين.


منذ ذلك الوقت بدأت حالة «الوهم المتجدد» في نظرة بعض القيادات السنية في العراق للتيار الصدري، وأصبح الصدريون وبعض رجال الدين الشيعة الذين وصفوا بالعروبيين كالخالصي وغيره، حلفاء سياسيين في هيئات أريد لها أن تكون عابرة للطائفية، وهي فكرة سديدة لعلاج المرض الطائفي، إن لم يكن الدواء فاسدا، وبعد أن علقت صور الصدر عام 2004 في معقل سني كالأعظمية، استيقظت الأحياء السنية في بغداد ذات صباح ومنها الأعظمية نفسها، على وقع غزو مليشيات جيش المهدي الصدرية لأحيائهم، وبدأت منذ عام 2005 حتى حادثة تفجير سامراء عام 2006، سلسلة منظمة من أعمال الخطف والتعذيب والتهجير والقتل بالمثقاب الكهربائي، طالت مناطق السنة في بغداد وديالى وغيرها، ووصلت مبكرا للقيادات السياسية نفسها، حتى تم قتل شقيق نائب رئيس الوزراء صالح المطلك، بعد خطفه عند منطقة الشعلة شمال بغداد، وبعدها قتل شقيق نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي، وكذلك المئات من الشخصيات الدينية المنضوية في هيئة علماء المسلمين بقيادة الشيخ الراحل حارث الضاري، حتى الرياضيون لم ينجوا من الاستهداف، إذ خطف رئيس اللجنة الأولمبية العراقية مع زملائه من وسط مقره، ويروي أحد الناجين من الخطف الذي ما زال يعالج للآن من آثار التعذيب في إحدى الدول الأوروبية، أنهم اقتيدوا لمنطقة الصدر وتعرضوا للقتل جميعا بعد تعذيبهم وإعدام زملائهم أمامهم.


ومع ذلك فقد استمرت محاولات تقديم تيارات طائفية غارقة في أعمال دموية، على أنها «خيارات وطنية « لمجرد خلافاتها الداخلية مع «إخوة الكفاح»، خصوصا من قبل بعض حكومات الدول العربية التي فشلت في مواجهة النفوذ الإيراني في العراق، فأخذت تفكر في حلول من داخل الصندوق الشيعي المتنفذ في العراق، لنجد أن الإمارات وفي خضم تبنيها لمشروعات الطاقة المتجددة البيئية، غرقت في «الوهم المتجدد» برؤيتها مع السعودية لإمكانية مواجهة النفوذ الإيراني في العراق، من خلال محاولة اجتذاب تيارات شيعية بطلب أمريكي، إذ انفقت الملايين لاجتذاب قيادات شيعية من التيار الصدري وغيره من شيوخ العشائر الشيعية، وترتيب لقاءات لهم مع قيادات سنية عراقية، قبل أن تذهب كل هذه الجهود سدى مع انتخابات عام 2010 عندما انحاز الشارع الشيعي بالكامل لانتخاب الأحزاب الدينية التقليدية الموالية لإيران، التي شاركت بالنهاية مع مقتدى الصدر في تشكيل الحكومة، وكانت الثورة السورية مناسبة جديدة للتعرف على نتيجة الجهود التي انفقت لكسب التيار الصدري، إذ قام أبرز قادته السابقين، الخزعلي والكعبي وسعد سوار، بالذهاب مع مليشياتهم المكونة من أبناء التيار الصدري والمتطوعين من المناطق الشيعية الفقيرة في مدينة الصدر والشعلة والناصرية وغيرها، إلى سوريا للقتال تحت إمرة قاسم سليماني من البوكمال حتى السيدة زينب، ضمن مليشيات العصائب والنجباء وأبو الفضل العباس وجيش المؤمل وغيرهم.


وفي الانتخابات الأخيرة، فإن منطلق الدعاية التي تروج لتحالف «سائرون»، تقوم على تكرار التأمل من داخل الصندوق نفسه، بالتركيز على عدة إطلاقات لا تقف على قدمين، بينها أن التحالف يضم «مدنيين وشيوعيين»، مع أن هذه القوى محدودة القاعدة الشعبية ولم تفز في أي انتخابات ماضية بأي مقاعد نيابية تذكر، كما قالت ذلك هيفاء الأمين، الفائزة الشيوعية بالانتخابات ضمن تحالف «سائرون»، إذ قالت إن قاعدتهم الانتخابية محدودة، ولذلك فهي لم تربح بالانتخابات الماضية، وبالتأكيد إن فوز التيار بـ17 مقعدا في بغداد لم يكن بسبب تفشي الفكر اليساري الماركسي في مدينة الصدر، بل كان «فدا السيد» كما يقول أنصار الصدر.


أما الوصف الأكثر تناقضا لتيار «سائرون»، فهو أنه «تحالف مدني عابر للطائفية»، رغم أن مقاعده كافة التي حصل عليها، كانت حصرا في مناطق شيعية، ولم يفز بأي مقعد نيابي في أي محافظة أو منطقة سنية، أو حتى كردية في العراق. تجاهل المشكلة، ومحاولة إغراقها بمساحيق التجميل لا يؤدي لحلها، وحتى انتقاء جزئيات لمحاولة إظهار تيار الصدر بأنه معارض لإيران، تبدو محاولة سطحية، فتاريخيا محمد صادق الصدر نفسه هو تلميذ الإمام الخميني في الفقه الإسلامي، وكل قيادات التيار الصدري الذي انفصلوا عنه لاحقا، تدربوا لأشهر طويلة في معسكرات الحرس الثوري، ومعظمهم إما تم سجنه لدى الجيش الأمريكي أو مصنف ضمن قوائم إرهابية، وإذا كان البعض يتحدث عن انفصال كل هؤلاء القادة عن التيار الصدري، رغم أن قاعدتهم الشعبية لم تنفصل معهم، إلا أن مقتدى الصدر نفسه يقضي معظم وقته خارج العراق في إيران، ويحظى بعلاقات مع كبار قادة النظام الأمني في إيران، كما يصرح قيادات تياره، ولعل كثيرين يرددون واقعة هتافات «إيران برا برا « في المظاهرات التي دعا لها التيار الصدري في بغداد قبل عامين، دون أن يعلم أن معظم من رددوها هم من أنصار التيار المدني، الذين خرجوا مع الصدريين في المظاهرات، أما الصدر نفسه، فقد نقل عنه أنه اعتذر لقاسم سليماني عن ذلك، والمؤكد أن مقتدى الصدر سافر للاعتكاف في إيران لشهرين، بعد يوم واحد فقط من ترديد هذه الهتافات، يا للمفارقة! وكان باستقباله في المطار شمخاني رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني. ومن يبحث في أرشيف التيار الصدري، فلن يجد أي تصريح أو موقف فعلي معارض لإيران.


وبعد انتخابات 2018، فإن المقبل لن يختلف عما مضى، فكل نظريات الوهم المتجدد تم تجريبها، لذلك فإن خلافات التيار الصدري مع منافسيه داخل البيت الشيعي، ستتم معالجتها ترغيبا أو ترهيبا من قبل إيران، رب البيت الشيعي، وسيبقى الزعيم الصدري مجرد ظاهرة فلكلورية شعبوية للاستهلاك الدعائي، تعمل في إطار التوافق الشيعي العام الموالي لإيران، وكما حصل في كل الانتخابات الماضية، فإن الكتل الشيعية الكبرى، ستنجح على الأغلب في الاتفاق على تشكيل حكومة، سواء بوجود التيار الصدري أو دونه، والأرجح أن تيار «سائرون» سيشارك بالحكومة بالنهاية كما كل مرة. أما التحالفات السنية التي شتت أصوات قاعدتها الانتخابية بين قائمة العبادي وقائمتي الوطنية والقرار، فستتركز جهودها على التصارع على المواقع الحكومية الثانوية والوزارات المدرة للعقود المالية، والبحث عن رواية جديدة لصناعة «وهم متجدد» لجمهورها، في محاولة للهروب من قراءة واقعية بعد 15عاما، تقول إن وضع العرب السنة في منظومة الدولة العراقية الجديدة، سيبقى مهمشا ومهشما، ما دامت القوى التي تسيطر على الشارع الشيعي والكردي ذات توجهات طائفية أو قومية كردية، وخيار الإقليم السني الذي يمثل منطلقا للحل لن ينجح دون فرضه بالقوة .

 

القدس العربي

0
التعليقات (0)