مذكرات عاكف

صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (19)

محمد مهدي عاكف - جيتي
محمد مهدي عاكف - جيتي

اخترعنا مضخة ماء

كان الماء يشكل مشكلة كبيرة لنا، وبدأنا في التغلب عليها، حيث كنا نذهب صفوفا بيدنا الأواني لملئها من العين مباشرة. ثم، بالتفاهم مع إدارة السجن، أمكن تدبير عدد من البراميل لملئها ودحرجتها من العين حتى الخيام. ثم تطور الأمر حتى وصلنا إلى عربة الماء التي تمر على الخيام كل صباح، ويدرس الإخوة المهندسون مشروع مد أنابيب من العين حتى السجن، ثم رفع المياه بالمضخة في صهريج، يعمل على توزيع المياة على كل خيمة عن طريق الحنفيات.

وقام أخ يسمى أحمد خضر (وكان سمكريا أو سباكا من العباسية وكان فتوة)، بالتعامل مع الأرض وزرعها، فأنتجت إنتاجا ما كنا نتخيله. وفي مدة قليلة، تحول المعسكر إلى جنة. وكانت مجموعة عناصر من الأشغال العسكرية أصدقاء لنا، فمدوا لنا مواسير مياة من العين إلى داخل المعسكر، ووضعوا لنا خزانا كبيرا، فنظل طوال اليوم نسحب من المياه ونضع في الخزان، وكل خيمة لها ربع الساعة تملأ المياة.

ومن عظمة تنظيم المعسكر وانتظام الإخوان والتزامهم، أنتجت الأرض إنتاجا؛ إذا حدثتك عنه تتعجب من قدرة الله، وأصبح عندنا ما لا يخطر على بالك من أنواع الخضراوات.

ولم نكن ننسى الإخوان الذين لم ينالوا حظا من التعليم، فكان الشيخ عبد الحميد البرديني - رحمه الله رحمة واسعة - بعد الفجر؛ يدرس للجماعة الأميين الذين يريدون الحصول على الابتدائية، وكانت خيمتي بجانب الجامع. وأذكر دائما هذه الجملة وهو يرددها: الحال دائما منصوبة، الحال دائما منصوبة!

وبدأت الحياة

عملنا ملاعب رياضية: كرة قدم وتنس وجمباز وسلة وطائرة، وحولنا المعسكر بالفعل إلى جنة، وقسمنا الإخوان على ثلاثة أندية وهي: نادي النصر ونادي الفتح ونادي الجهاد، وعملنا اتحادا عاما. ولأول مرة كنت أشاهد انتخابات الأندية حتى نختار مجلس إدارة ونختار ممثلي النادي ورئيسهم.، وتم انتخابي رئيسا للاتحاد، وكان الأخ صلاح العطار ( وهو مهندس كبير لم أره منذ أن رحل من السجن) رئيس أحد الأندية، وكذلك صلاح شادي ومصطفى مشهور، وكان شيئا غاية في النظام والإتقان.

ومما أتذكره أيضا أنه في شهر أيار/ مايو سنة 1956، أحضروا لنا عددا من الخيام الجديدة، فكانت متنفسا للجميع، حيث زادت من حجم المعسكر. وانتقلت، وسكنت في "هايك" مع إخوة كرام، هم: عبد الحليم خفاجي، محمد سعيد المهدي، محمود زينهم، صلاح إمام.. واجتهدت في تجميل "الهايك" بالزراعة من حوله، وبتزيينه للحمام، وبحفر سراديب الأرانب.. وتبارى الجميع في تجميل هذا الحي السكني الجديد.

وذات مرة، اصطاد الأخ عبد القادر حميدة فنكين حيين، وصنع لهما بيتا يؤويهما، وكنا جميعا نذهب لهذا البيت وننظر إليهما ونطعمهما، وكانا في أدب جم ويجلسان القرفصاء، ونلقي إليهما اللحوم ونؤثرهما على أنفسنا.

وذات يوم نسي باب القفص مفتوحا، فحفرا لنفسيهما سردابا تحت الجدار، وهربا منه في الليل إلى الصحراء الواسعة.. وجن جنون عبد القادر بعد أن تبخرت أحلامه، وتهدد مركزه لدى الإدارة، ولامه المأمور والضباط. ونقصت مقرراته من اللبن واللحم، وأحدث الخبر هزة كبيرة في السجن، وتعليقات لاذعة من إخوانه؛ أقعدته داخل الزنزانة، ولم يجرؤ على السير في أرجاء السجن.. وانتهز الإخوان الفرصة، وذهبوا بعد عودتهم من الجبل؛ يعزونه في مصابه، وبعضهم علق شارة السواد على صدره، إمعانا في المزاح. واكتظت زنزانته بالإخوان، وعلى رأسهم القيثارة البشرية سعد سرور وأحمد حسين، والمجموعة معهما تردد أغنية...

هـاتي الدمـــوع يا عـين... وأبـكي عـلـي الفـنـكيـن
بعــد التـعـب مــا طال.. طاروا فـي غـمـضـة عين

ومن طرائف ما جرى، أنه أهدى ذات يوم بومة محنطة للمأمور التركي ضياء ليزين مكتبه.. وما أن خرج عبد القادر من المكتب، حتى أصيب المأمور بمغص كلوي حاد.. ولما تجمع الضباط والسجانة حوله، أمرهم بإحضار عبد القادر فورا.. فأخذوه إليه وهو منزعج، ولما دخل عليه قال له:

انزع هذه البومة فورا، واخرج من أمامي.. ألم أقل لك إنها تجلب الخراب.

فقال: يا سيادة المأمور... هذه اعتقادات باطلة، وأنت رجل متعلم... إنها مجرد طائر مثل بقية الطيور، والتشاؤم ليس من الإسلام.. وأنا أملك شخصيا بومتين في بيتي.. فضحك المأمور قائلا:

وهذا سر خراب بيتك ودخولك السجن.. فأسقط في يد عبد القادر، ولم يجد جوابا وضحكوا جميعا.

تنظيم الحياة

لم نكن وحدنا في سجن الواحات الخارجة. فبعد أن ذهبنا إلى هناك بشهر أو شهرين، أتى نحو 50 فردا من الشيوعيين، وكانوا زعماء الشيوعيين من الأحزاب. وكنت أعرفهم جميعا، وكنت مسؤولا عن الإخوان وقتها، فكانوا إذا أرادوا شيئا يذهبون للأستاذ صالح أبو رقيق فيقول لهم: اذهبوا لعاكف، فيقولون: لا لا، إنه يكرهنا.

وكان سجناء الإخوان مسؤولين عن طهي الطعام والخبز، وكنت مسؤولا عن فرقة العجين التي تحتاج شبابا أقوياء، فكنا نستيقظ في الثالثة صباحا لنعجن. وكان التموين في السجن ثلاثة أجولة من الدقيق، فكنا نعجن جوالين تقريبا ونترك لهم جوالا، فكانوا دائما في نوبة العمل يخرجون شريف حتاتة، فكنت إذا رأيته أخرج أقف حتى يراني، وإذا رآني لا يتكلم بكلمة واحدة، فلو تركناه يتكلم لظل يتكلم عن نظرياتهم الفارغة وما سكت.. وبعد أن ننتهي العجين نستحم حفاظا على نظافتنا، مهما كانت الظروف، فكنا نستحم أحيانا بمياه مثلجة ودرجة الحرارة صفر، ونجد البراميل التي استخدمناها متجمدة في الصباح.

هجوم مضاد

في هذا الجو الذي كنا نعيشه، ونحاول أن نتغلب على ما يجول في خواطرنا من تعب وحبس.. حتى قمنا ذات صباح فزعين على هجمة شرسة من قبل إدارة السجن، وكان على رأسها المأمو،ر حيث بدأت النداءات تأمرنا بالخروج مسرعين إلى الفناء.

وقفنا جميعنا في انتظار قرارات المأمور الطاغية الذي أُسمعنا من قصص طغيانه ما يشيب لها الولدان.. وما هي إلا دقائق كأنها الدهر؛ حتى خرج علينا يتهاوى، وكانت عيناه جاحظتين، وكانت أبصارنا شاخصة إليه منتظرين كلمته.. ثم نطق فقال: "لقد قررت الدولة أن تستفيد من عضلاتكم لأنها يئست من صلابة عقولكم، وستقومون بشق الترع والمصارف إلى ما شاء الله حتى تستجيبوا لما نطلبه منكم"..

خيم صمت رهيب في أعقاب هذه الكلمات الحاسمة؛ لأننا أدركنا منها، بحسنا المتمرس على فهم أساليب الطغيان، شيئا أعمق من السخرة في العمل، مثلما حدث مع إخوة لنا في سجون أخرى، حيث أدركنا أنها مذبحة جديدة والاتهام الجاهز "تمرد استدعى الأمن قمعه". وأمام المصير المجهول، يكسو الوجوه ملامح الإصرار والعزم، ويشع من العيون بريق، وتقترب القلوب من الله أكثر من أي وقت مضى، ويزداد الحب والثقة بيننا، وهكذا كنا دائما في مثل هذه المواقف..

توالت النداءات الغليظة بعد توزيع أدوات العمل من فؤوس و"وكريكات" ومقاطف، وخرج طابور من البوابة الشمالية في اتجاه الصحراء الغربية، يتكون من مئتين أو يزيد من شباب الإخوان، كلهم في العقد الثالث إلا قليلا ممن هم في حكم الآباء، وكان يشاركنا هذا العمل عدد كبير من الشيوعيين. وأمام الجميع أعداد من الجنود المسلحين والحراس المدججين بالسلاح.

خرج هذا الطابور من أبواب ضخمة بعدما أشرقت الشمس بأشعتها الملتهبة، وكان معظمنا حافي القدمين.

 

اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (18)
اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (17)

التعليقات (1)
ابو عبدالله
الأربعاء، 17-01-2018 11:52 ص
رحمه الله رحمة واسعة