قضايا وآراء

السودان.. كثرة الأحزاب وموت السياسة

عباس محمد صالح
1300x600
1300x600
مع انتشار موجات الديموقراطية وتواتر تجارب الانتقال السياسي واتساع رقعة المجتمعات الديموقراطية، باتت ثقافة الحقوق واحترام إرادة الشعوب والتعبير عن تطلعاتها من المُسلّمات التي لا تقبل المقايضة أو المساس بها.

أيضا باتت التعددية الحزبية ضمانة مهمة لترسيخ العملية الديموقراطية في أي بلد. فالخبرات التي راكمتها الممارسات الحزبية مهدت لاحقا لبروز حقبة تصاعد أدوار منظمات المجتمع المدن.

ومع بروز الحركات الاجتماعية - في الحقبة الراهنة - تعززت أشكال المشاركة السياسية للمواطنين، حيث ترسخت آليات لضمان التعبير عن إرادة الشعوب الحرة في صلب عملية صناعة القرار كمحدد للشرعية.

الشاهد هنا، أن الأحزاب تعتبر حواضن طبيعية لإضفاء الحيوية على الحياة العامة وتعزيز ثقافة المشاركة، وغرس أسس المواطنة الصالحة. ولكن صحيح أن "لكل قاعدة شواذا"، فهناك تجارب على النقيض من ذلك تماما، أي أن تغدو الحزبية عائقا أمام رسوخ الديموقراطية والمشاركة الشعبية، كما هو الحال في السودان اليوم!

عرف السودان حق إنشاء وتأسيس الأحزاب السياسية باكرا باعتباره حق من الحقوق الأساسية التي تكفلها المواثيق الإقليمية والدولية، فضلا عن القوانين الوطنية، في وقت كانت فيه بعض القوى الحية في بعض البلدان العربية والأفريقية تكابد من أجل الحصول على حيز أقل من ذلك بكثير.

بين الفنة والأخرى، يعلن مجلس تنظيم الأحزاب والتنظيمات السياسية اعتماد تسجيل حزب جديد. غير أن كثرة أعداد الأحزاب وانتشارها؛ لم يؤدِ إلى قيام تجربة ناضجة أو أحزاب سياسية قوية أوسياسة وطنية متماسكة بالمجمل، ذلك أن يُسر شروط تأسيس الأحزاب وكثرة أعدادها، أدى إلى موت السياسة في البلاد.

أكبر دليل على مدى الفائض الحزبي؛ ما تردد عن مشاركة زهاء 79 حزبا فى عملية "الحوار الوطني" الذي شهدته البلاد مؤخرا، وتشكلت بناء على مخرجاته "حكومة الوفاق الوطني" الحالية والمكونة من أكثر من 72 وزيرا ووزير دولة، أو عندما يعلَن عن تشكيل تحالف معارض جديد داخل البلاد، يتشكل من 34 حزبا.

 وتناول تحقيق صحفي نشرته إحدى الصحف المحلية، ظاهرة "الأحزاب الديليفيري"، في إشارة إلى الأحزاب الجديدة التي تكون في بعض الأحيان بلا مقرات أو عضوية فعلية أو مؤسسات أو حزبية. وفي بعض الحالات يكون الحزب هو فرد واحد، وهو المؤسس! إذ يمكن الالتفاف على الشروط الشكلية للتأسيس، مثلا جمعُ توقيعات لمئة شخص كحد أدنى من ولايات البلاد كشرط للحصول على رخصة تأسيس حزب سياسي، ومن ثم ينخرط هذا "الزعيم" في سوق السياسة المربح في البلاد!!

رغم التاريخ الطويل من الحياة والممارسة الحزبية، مع ذلك فشلت السياسة في إثراء الحياة السياسية على صعيد تراكم التجارب أو الخطاب أو الإنتاج الفكري، إذ كانت خطابات الأحزاب عقيمة ومنقطعة عن الأفكار الخلاقة والعطاء الإيجابي. فلا غرو أن تكون الحزبية غالبا ممارسات سلبية تعيد إنتاج الفشل وخيباته.

هنا يمكن الإشارة إلى خلفية عامة لمكونات المشهد الحزبي قبل حالة التشظي الراهنة، وذلك للوقوف على المكونات الحزبية والسياسية التي تعتبر مقدمات لهذا التشظي، على النحو التالي:

- الأحزاب التقليدية: وهي الأحزاب الكبرى المهيمنة تاريخيا، كالحزبين "الطائفيين"، وهما: حزب الأمة القومي، والحزب الاتحادي الديموقراطي.

- الأحزاب الحديثة: وهي القوى التي قامت على أساس الأيدلدلوجيات الحديثة، كالأحزاب القومية (البعث والناصري)، واليسارية (كالشيوعي ومؤتمر المستقلين والمؤتمر السوداني)، والإسلام السياسي (الإخوان المسلمين في أطوارهم المختلفة وصولا للمؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي في الوقت الراهن).

- الأحزاب الإقليمية: أي تلك الحركات والقوى التي تعبّر عن الحركات المطلبية بأطراف البلاد، في دارفور أو جبال النوبة وشرق السودان، ويطلق عليها أحيانا "الجهوية" أو قِوى "الهامش".

إن عدم الاستقرار السياسي المزمن في البلاد اليوم، تسبب فيه بشكل كبير عدم نضح الأحزاب وعجزها عن تجاوز الانقسامات وإرساء قواعد الديموقراطية داخلها قبل أن تطالب بها، حيث افتقرت الأحزاب التقليدية - رغم تمتعها بعدة فرص في حكم البلاد - إلى النضج الكافي لتطوير خطاب سياسي استيعابي متحرر من ضيق الطائفية السُلالية (الطائفية هنا نسبة لطائفتي "الختمية" و"الأنصار"، وهما طائفتان دينيتان شكلتا أساس حزبي الأمة القومي الذي يهيمن على قيادته آل المهدي، والاتحادي الديموقراطي الذي يهيمن عليه آل الميرغني)، وقد فشلت على مستوى الحكم، كما على مستوى الممارسة السياسية، وينسحب هذا الحُكم على القوى الحديثة أيضا.

وكانت الانقسامات والانشقاقات - ولا تزال وستظل - من أهم ملامح الأحزاب السياسية بالبلاد التقليدية منها والحديثة. وترجع أسباب ظاهرة الانقسامات المتجذرة لغياب الممارسة الديموقراطية داخل هذه الأحزاب، وتضخم الطبقة السياسية التي تزايد اعتمادها على جهاز الدولة مبكرا، وليس على نشاطها المهني المستقل.

فلا غرو أن تقوم الولاءات لهذه الأحزاب على المصالح الضيقة، سواء كانت مصالح فردية أو فئوية أو جماعية، لكسب الولاء لنظام سياسي معين ولحزبه الحاكم والذي هو حزب السلطة.

من المفارقات الحزبية السائدة في السودان أن صدود الجماهير عن السياسة اليوم، يقابله تكالب مفرط لدى النخب والطبقات السياسية على تأسيس الأحزاب لخدمة مصالحها، وتجذير مفرط للنزعات القبلية سياسيا. 

كنتُ قد أشرتُ في مقالة سابقة نشرتها في مكان آخر لما أسميناه "سرطان" الطبقة السياسية، وقصدنا بها التضخم الملحوظ في "طبقة" المنخرطين في الشأن السياسي - في الحكم أو المعارضة - من النشطاء والسياسيين، وعلى أساس سلوكيات لدى هؤلاء تقوم على أساس المصالح الضيقة مع سيطرة العقلية الريعية، أي تحول التكتيكات داخل الحقل الحزبي إلى مصدر رزق!

في ظل هذه الظروف، من الطبيعي أن تنتهي مصائر الأحزاب، إما إلى التكلس والتراجع، أو الانشقاقات الرأسية والعمودية، وكذلك تحولها إلى كانتونات نخبوية منعزلة عن الجماهير تعبر عن مصالح فئوية ضيقة، وتفكك الولاءات الحزبية، همينة العصبيات والانتماء دون الوطنية، وتراجع المشتركات الوطنية الجامعة بشكل كبير.

مع تراجع الحماس للسياسة وحاضنتها الحزبية لدى قطاعات واسعة من فئات المجتمع، غير أن هناك عملية تعبئة سياسية نشطة، ولكن على أساس جهوي إقليمي؛ إذ يتزايد تسيس الناس في هذه الحالة، ولكن كعصبية جهوية أو قبلية أو إثنية، أو لتوظيف الزخم لتلك القضايا في الخارج، وهذا بدوره أوجد سوقا أسياسية كبيرة لها قوانينها في العرض والطلب!

ومن الظواهر التي يمكن رصدها في الحالة السودانية مؤخرا، تلازم العنف والحزبية؛ وقلمّا يوجد حزب اليوم وإلا لديه إما جناح عسكري أو مليشيا مسلحة، أو صلة ما بفصيل مسلح.

سابقا، كانت ممارسة العنف من أجل للوصول للسلطة عبر القيام بالانقلابات من خلال اختراق الأحزاب المؤسسة العسكرية، ولكن اليوم لم يعد العنف السياسي ممكنا عبر مؤسسة الجيش، وإنما عبر أذرع عسكرية ربما ساعدت التكتيكات السياسية للفاعلين السياسيين، فيخلق نوعا من التسامح مع أشكال العنف وتجاه استخدام القوة لتحقيق الأهداف السياسية، وتمت شرعنة أشكال من العنف السياسي إلى حد كبير، والذي بات أقصر الطرق لبلوغ الغايات السياسية.

ويتجلى عجز الأحزاب وانسداد أفق الممارسة الحزبية عن قيام تحالف أو ائتلاف قوى على أساس برامج وطنية في الحكم أو المعارضة، وهذا أكبر مؤشر على بلوغ الحزبية في البلاد مرحلة موت السياسة.

وفي حمأة المماحكات السياسية غابت الأسئلة الوطنية الكبرى، والتي هي بمثابة استحقاقات مؤجلة وهي: بناء الدولة الوطنية القوية، والهوية الوطنية، وتحقيق الازدهار والتقدم.

نظريا كان يجب أن تكون تجارب الأحزاب - بخبراتها المتراكمة - بمثابة مدرسة لغرس الروح الوطنية ورافدا للعمل العام بالكوادر والكفاءات.

إن ما يجري حاليا من صراع بين المشاريع السياسية للأحزاب كله انصراف يستبدل فشلا بفشل. وإذا استمرت الحياة الحزبية بهذه الفوضى في تأسيس الأحزاب وتيرة الانقسامات الحزبية والصراعات فيما بينها، سيكون السودان يوما ما "بلد الألف حزب".
التعليقات (2)
امال هارون
الثلاثاء، 06-09-2022 05:19 م
مقال ممتاز
ليلي امين
الإثنين، 22-04-2019 08:51 ص
اريد ان اعرف كيف يتم انشأء حزب و كيف يتم توثيق عقد صحيح له....... وشكرا للمعلومه .