قضايا وآراء

لماذا الخوف على قطر؟

بشار غنّام
1300x600
1300x600
المعادلة القطرية اليوم مشدودة بين عدة أطراف: جيران متربصين محتقنين.. وجادين جدا هذه المرة، وحليف وحيد موثوق متردد محاصر، وداعم ظرفي -خصم استراتيجي- لا يمكن الوثوق به، وأصدقاء دوليين يجاملون دبلوماسيا فيما يدعمون ضمنيا تفتيت المنطقة وتنفيذ الانقلابات.

حتى الآن تبدو قطر متماسكة، وتتحدث لغة دبلوماسية أكثر رصانة واحترافية من خصومها، لكن إلى أي حد يمكنها أن تبقى مستندة إلى تصريحات المجاملة من بعض الأطراف الأوروبية والأمريكية؟

بعيدا عن محللي الأمنيات وموزعي التفاؤل الساذج، فإن وجود 500 جندي تركي أو حتى ألف؛ هو وجود رمزي يمثل دعما معنويا لا أكثر، وهذا يعني أن الوضع الاستراتيجي والميداني – العسكري - القطري هش للغاية، إذ إن قاطعا ميدانيا من 50 إلى 100 كلم ويحوي مدينة متوسطة الحجم؛ يحتاج إلى عدة ألوية عسكرية للدفاع عنه وليس 500 جندي!... وهنا تبدو اتفاقية الدفاع المشترك التركية القطرية رمزية أكثر منها واقعية، فيما احتمال التدخل العسكري ما زال قائما وخطيراً.

إن اتفاقية حقيقية للدفاع المشترك تتطلب على الأقل أحد المقومات الاستراتيجية التالية: وجود قواعد عسكرية مشتركة كبيرة وفرق مشاة جاهزة للحركة على الأرض، أو اتصال بري بين الدولتين، أو أسطول بحري قوي ومتموضع، أو قوة صاروخية كاسحة، أو قوة جوية ضاربة مع مجالات جوية متصلة. وواضح أن أيا من ذلك ليس متوفرا في الحالة التركية القطرية.

تبدو تركيا جادة في دعمها لقطر، وتبدو مستعدة لدفع فاتورة كبيرة، مثل سحب استثمارات وخسارة عقود بمليارات الدولارات، لكن السياسة الخارجية لتركيا تبدو مبالغة في الحذر، وأسباب ذلك كثيرة ومفهومة، فضلا عن أنها لم تقف حتى اليوم بما يتناسب وكلمة اتفاقية دفاع مشترك أو بما يتناسب وما تم تداوله عن مخططات لتغيير النظام القطري واجتياح عسكري محدود. وأمام فعل الحصار وفعل تغيير النظام تبدو كل كلمات الدعم باهتة.

الخطاب الإعلامي الواثق لا يكفي لعبور أزمة وجودية، هو مفيد لتقوية الجبهة الداخلية، لكن من الخطأ الجسيم الاسترخاء تحت دعاوى أننا أفحمناهم وأسكتناهم وانتصرنا إعلاميا عليهم، فيما القوم يعدون لقلب الواقع على الأرض!

الإعلام القطري غير الرسمي -فضائيات ومواقع إلكترونية- أجادت أحيانا وأخطأت في أكثر من جانب:

- تحويل الصراع من استراتيجي سياسي إلى شخصي. إن أسوأ ما يمكن أن يتم فعله في صراع عربي-عربي هو تحويله إلى صراع شخصي، فقد تعودنا من القيادات العربية - بعمومها – ليونة فائضة عند التسويات، حتى أنها قد تقدم أثمانا باهظة جدا وغير منطقية في إطار تسوية أو صفقة سياسية، لكن أن يتحول الهجوم إلى الشخصي فهذا يعقد أي إمكانية للحل، وهذا يفعله الطرف الذي لا يريد حلا للأزمة.. وهنا تبدو بعض وسائل الإعلام المقربة من قطر وكأنها تعمل ضد المصلحة القطرية.

- استخدام لغة متحدث عسكري وليس لغة إعلامية.. وتكرار عبارات تفيد الصعود على الشجرة وتمنع النزول عنها؛ من قبيل: لن نركع ولن نتنازل، ولن نغير أداءنا... إلخ، رغم أن الواقع القريب يقول إن هذه التنازلات المؤلمة حدثت ويمكن أن تحدث مجددا.

إن تسويق التصريحات الأوروبية والأمريكية كانتصار يبدو ساذجا جدا.. والاحتفاء بالتصريحات حول رفض تكميم الأصوات الحرة ورفض الانتقاص من سيادة دول... الخ.. كل ذلك الهذر يبدو مألوفا بشكل مقزز! لنتذكر سوية: أين سمعنا عبارة احترام حرية الشعوب وحقها بتقرير مصيرها وسيادة الدول؟ نعم... قبل إعطاء الضوء الأخضر لانقلاب عسكري. وأين سمعنا عبارة ضبط النفس والحث على الحوار؟ نعم... مباشرة قبل إعطاء سفاح ما الموافقة الضمنية على ذبح شعبه... بالتالي إحدى القراءات الواقعية لهذه التصريحات هو أنها تبرئة استباقية للذات الغربية تجاه مذبحة السيادة والحريات التي يمكن أن تحصل!

- الركون إلى التصريحات الإيرانية يبدو غير حكيم البتة؛ فإيران تقرأ الدور القطري استراتيجيا أنه مصادم لخططها.. وخصوصا في تعطيل المحور الإيراني عبر الدعم الكبير للثورة السورية، بعكس ما تقوم دول خليجية أخرى تقدم خلطة فريدة من السياسة الخارجية المفرطة في البراغماتية، إذ تدعم الثورة السورية والنظام معا! وبالتالي من المعقول جدا أن تدعم إيران قطر ظاهريا، فيما تفعل العكس حقيقة وتشجع تغييرا جذريا في قطر.. وهذا ليس جديدا على الديبلوماسية الإيرانية، وتجربة إيران مع بعض الدول الخليجية أنها تأخذ منها ما تشاء سرا، فيما يمكن للأخيرة التصريح بما تشاء حول معارضتها للتغول الإيراني في المنطقة! ولا تمانع إيران حكومة ضعيفة في قطر يمكن لإيران أن تأخذ منها الكثير مستقبلا.

- الركون إلى التصريحات الروسية أيضا غير حكيم؛ فروسيا تصنف قطر على أنها صاحبة مواقف أكثر استقلالية عن السياسية الأمريكية وأكثر مغامرة من أخواتها الخليجيات، وبالتالي فاحتمال التقاطع معها أكثر من احتمال التقاطع مع غيرها من الخليجيين المحسومين تاريخيا ضمن الحلف الأمريكي. لكن وفي الوقت ذاته روسيا تنظر أيضا إلى قطر بريبة من زوايا كثيرة، أبسطها أن النظام الروسي يرتاح تاريخيا للعمل مع الأنظمة الديكتاتورية أو المحافظة، بينما الرهان القطري هو باتجاه التغيير، أي عكس منظومة المصالح الروسية بشكل جلي. ولا يوجد حتى الآن ما يوحي بأن روسيا ستأخذ موقفا حازما لدعم قطر.. رغم أن روسيا هي الطرف الأسهل والأجدى حاليا لعقد صفقة من هذا النوع معه.

- أمريكا الدولة -وليس فقط أمريكا ترامب- تفضل استراتيجيا منطقة عربية تحكمها الأنظمة المحافظة الصديقة الحليفة القديمة ذاتها، وليس أنظمة مشاغبة تتحدث بلغة غير لائقة أمريكيا عن مصالح المنطقة وربيعها وسيادتها واستقلال قرارها وثرواتهاـ وبالتالي، فيبدو أن الخلاف الظاهري بين البيت الأبيض والمؤسسات الأمريكية الأخرى هو خلاف على فجاجة ترامب فقط وليس على جوهر الانحياز الأمريكي، الذي هو منطقيا وتاريخيا أقرب للسعودية والإمارات. ولن يكون خيالنا بعيدا إن تخيلنا هذه المؤسسات تطلب من ترامب أن يدعو للحوار فقط لحين اكتمال الانقلاب، وأن يدعو لحفظ أصوات الحرية في العالم العربي؛ بالقدر الذي يخدم فقط الصورة الدعائية لأمريكا كمدافعة عن الحريات، وليس أبدا بالصورة التي يمكن أن تغير أساسات الحلف القديم والتغيير الذي قد يكون مفيدا أمريكيا.

الانحناء للعاصفة وتقديم بعض التنازلات المؤلمة هو المآل الأكثر ترجيحا للأزمة القائمة، وأرجو ألا تكون النهاية أعقد من ذلك، فآخر ما تحتاجه المنطقة هو تفتيت جديد يودي بما بقي للعرب من مناعة ضد المتربصين الكثر.
التعليقات (0)