مقالات مختارة

دبلوماسية الطريد والدخيل.. والمطالب التي أكسبت قطر التعاطف الإعلامي

سيد قاسم المصري
1300x600
1300x600
عندما كنت سفيرا لمصر لدى السعودية، حضرت حفلا لتوزيع الجوائز أقامته مؤسسة الملك فيصل الخيرية، وكان من بين الفائزين باحث مصري ــ للأسف لا أذكر اسمه الآن ــ نال الجائزة عن تاريخ المطاريد والدخلاء في شبه الجزيرة العربية.. والطريد هو عضو القبيلة المارق الذي تطرده قبيلته وتتخلى عنه وتسحب عنه حمايتها، فيظل يجوب الصحراء ويعرض نفسه على القبائل فإن قبلته إحداها فحينئذ يطلق عليه اسم الدخيل.

وعندما قرأت المطالب الـ 13 التي قدمت لقطر ومحتواها والأسلوب الذي صيغت به وإنذار الأيام العشرة والتهديد بالطرد من مجلس التعاون، تذكرت هذا البحث وأيقنت أن الدبلوماسية التي صاغته هي دبلوماسية "الطريد والدخيل" المستمدة من التقاليد البدوية، كما أيقنت أن الدبلوماسية المصرية كانت بعيدة عن صياغة هذه المطالب.

ففي الصراعات الدولية يكون كسب الرأي العام العالمي من أهم مقومات النجاح.. شاهدنا ذلك في أمثلة كثيرة في نواح كثيرة من العالم وفى أنفسنا.. في مصر.. خذ مثلا النجاح في كسب الرأي العام العالمي عام 1956 ضد العدوان الثلاثي والفشل في عام 1967 (عام النكسة).. ففي 1956 نجحت مصر بمهارات الدبلوماسية المصرية بقيادة الدكتور محمود فوزي وبمساعدة كريشنا منون الدبلوماسي الهندي القدير رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة في ذلك الوقت في أن يرى العالم الصراع بأبعاده الحقيقية... الدولة الصغيرة التي تتعرض لعدوان إمبراطوريتين استعماريتين (بريطانيا وفرنسا) ومعهما إسرائيل.. بينما في عام 1967 حدث العكس نتيجة لإخفاقات وأخطاء كثيرة ارتكبناها جعلت العالم يصفق للمعتدي (إسرائيل) مثل طرد قوات الطوارئ الدولية وتلغيم مضيق تيران ورفض قرار مجلس الأمن الذي ناشدنا إعطاء فرصة 15 يوما لالتقاط الأنفاس وإتاحة الفرصة للجهود الدبلوماسية ثم استقبال أوثانت أمين عام الأمم المتحدة في ذلك الوقت لدى وصوله إلى القاهرة حاملا قرار مجلس الأمن بمظاهرات تهتف: هنحارب.. هنحارب، وتم رفض مهلة الأسبوعين فكانت الحرب ونكسة 5 يونيو 1967 وهو اليوم الذي يعتبره كثير من المحللين التاريخ الحقيقي لمولد إسرائيل، ولم تكسب إسرائيل حربها العدوانية فقط بل كسبت معركة الرأي العام العالمي...

ها نحن بتقدمنا بالـ 13 مطلبا لقطر وعدم التركيز على مطلب واحد: "وهو رعايتها للإرهاب وإيواؤها لقادته"، قد أتحنا الفرصة لها لتمويع القضية الرئيسية.. فقد تاهت قضية رعاية الإرهاب وسط الضجة العالمية لمطلب "إغلاق قنوات الجزيرة والقنوات التابعة لها وإغلاق جميع وسائل الإعلام التي تدعمها قطر !!".. وهو الأمر الذي أثار استنكارا عالميا.. خاصة في الدول التي تعتبر حرية التعبير والحق في المعلومات من رواسخ ثقافتها وهذا لا يعنى أن قطر من هذه الدول، فنظامها الداخلي لا يختلف عن النظم القمعية فيما حولها وحكامها لا يتحملون أدنى مساحات النقد فقد نال الشاعر القطري محمد العجمي ــ مثلا ــ حكما بالسجن المؤبد لإلقائه قصيدة تتضمن تعريضا بنظام الحكم.

المطالبة بإغلاق قناة الجزيرة مطلب يدين أصحابه ويؤكد أنها أنظمة قمعية لا تطيق النقد ولا تسمح بالرأي الآخر.. فالسعودية والإمارات لديها من الإمكانيات المالية ما سمح لهما بتملك قنوات لا تقل عن إمكانيات الجزيرة.. حققتا نجاحات كبيرة وانصرف كثير من الناس عن قناة الجزيرة.. أما الآن فقد عاد إليها الكثيرون على الأقل لسماع وجهة النظر الأخرى.

إن المطالبة بإغلاق قنوات الجزيرة ذات الانتشار العالمي أمر مسيء لنا كما أنه يساعد قطر على الخروج من المأزق ويحيط الأزمة بكثير من الضباب وفقدان بؤرة التركيز على لب القضية.. لقد وصف مقرر الأمم المتحدة هذا المطلب بأنه "ابتزاز غير مقبول"، كما أدانته رابطة "مراسلون بلا حدود"، وأدرجته دول عديدة مثل ألمانيا وفرنسا واليابان وحتى الولايات المتحدة ضمن المطالب غير المقبولة.. فمطلب إغلاق القنوات هو مطلب "الإفلاس عن دفع الحجة بالحجة".

ثم يأتي بعد ذلك "مطلب الإغلاق الفوري للقاعدة العسكرية التركية ووقف أي تعاون عسكري مع تركيا".
فإذا أخذنا في الحسبان أن الولايات المتحدة تمتلك قواعد جوية أو بحرية في جميع دول الخليج وأكبر هذه القواعد هي قاعدة "العديد" بقطر.. فما هو المنطق هنا.. ثم أليس من حق أي دولة ذات سيادة أن تقيم علاقات عسكرية وغير عسكرية مع الدول الأخرى؟ إلا لو كانت دولة تحت الوصاية.. والحالة الوحيدة الثانية ــ غير الدولة الخاضعة للوصاية ــ هي أن يكون حظر إقامة العلاقات العسكرية مع دولة ما هو تنفيذا لقرار ملزم صادر من مجلس الأمن أو توصية من الجمعية العامة للأمم المتحدة لها قوة الإلزام الأدبي.

ثم المطالبة بخفض التمثيل الدبلوماسي مع إيران في الوقت الذي تحتفظ فيه بعض دول مجلس التعاون الخليجي بعلاقات على مستوى السفراء مع إيران، فضلا عن إقامة العلاقات وتحديد مستواها من الحقوق السيادية للدول ولا يحق لطرف ثالث أن يتدخل فيها.

بالنسبة لمصر فإيران ليست عدوا كما صرح بذلك وزير خارجيتنا الأسبق الدكتور نبيل العربي، وليس لدينا هاجس البارانويا الذي يتملك السعودية وأبو ظبي تجاه إيران (ولا أقول كل الإمارات، فدبي لها أوثق علاقات بإيران) وهو الهاجس الذي جعل قضية العرب الأولى.. القضية الفلسطينية تتراجع إلى المركز الثالث.. وهو الهاجس الذي أحال أعداء الأمس (إسرائيل) إلى أصدقاء اليوم حسب تعبير نتناهو.. حيث أصبحت إيران هي العدو المشترك.

كلمة أخيرة خاصة بالشكل الذي قدمت به "المطالب" والنواحي الإجرائية.. لقد أطلقت الدول الأربع كل ذخيرتها مرة واحدة ولم يبق إلا الحرب.. وكان من الأوفق دبلوماسيا أن يعتمد النهج التصاعدي "Incremental"، كما لم تراعَ الجوانب الإنسانية.. طرد المقيمين وإغلاق المعبر البرى الوحيد.. وغلق الممرات البحرية والجوية.

ثم يأتي المطلب الثاني عشر الخاص بأن يتم الموافقة على هذه المطالب خلال 10 أيام وإلا تعتبر لاغية.
هذا المطلب جعل الوثيقة تبدو كأنها إنذار موقوت بزمن "Ultimatum" مثل الذي يقدم قبل شن الحرب، وليس فتحا للتفاوض.

كنت أتمنى لو اقتصرت المطالب على إيواء العناصر الإرهابية وتسليم المطلوبين والكف عن مساعدة المنظمات الإرهابية بالمال والسلاح.. تلك هي لب القضية التي تم إضعافها بمطالب تتعارض مع مبادئ الديمقراطية وحرية التعبير ومع الحقوق السيادية المشروعة للدول.

بالرغم من إعلان قطر رفضها للمطالب، إلا أن باب التفاوض لا يزال ممكنا، فالإعلان كان مصحوبا باستعدادها للحوار.. وكل من يعمل في الحقل الدبلوماسي يعلم أن المفاوضات الصعبة تبدأ بشروط قد تبدو مستحيلة حيث يتمسك كل طرف بالحد الأقصى للمطالب في البداية. 

إذا أخذنا في الاعتبار مركز طرفي النزاع فإن الوقت الراهن هو أنسب وقت للتفاوض بالنسبة للدول الأربع حيث يتوافر لديها أوراق كثيرة تسمح لها بالحصول على أهم مطالبها مع ضمانات للتنفيذ من خلال نظام رصد محكم، بينما الطرف الثاني (قطر)، وإن كان قد نجح في حشد تأييد عالمي لصالحه، إلا أنه في حقيقة الأمر في أشد أوقات الفزع من العواقب ومن هول ما جرى.

إنني أناشد الدبلوماسية المصرية ألا تدور في الفلك الخليجي بل تتقدم الصفوف وتدعم الوساطة الكويتية وتخفف من غلواء التصريحات التي تعلن أن المطالب غير قابلة للتفاوض.. فهذا طريق لن يؤدى إلا إلى ارتماء قطر في براثن إيران وتركيا واشتعال الاضطرابات في الخليج مع كل ما يحمله ذلك من أخطار غير مسبوقة سوف لا تقتصر على أطرافها.
1
التعليقات (1)
أبوالقاسم خليفي
الأربعاء، 05-07-2017 03:28 م
...يستشف من المقال أن صاحبه موجوع من تمييع المطالب الحقيقية ...و قد حصرها صاحب المقال في نهاية ما كتب "...إيواء العناصر الإرهابية وتسليم المطلوبين والكف عن مساعدة المنظمات الإرهابية بالمال والسلاح."..من المطلوبون؟ قادة حماس؟ قادة الاخوان؟ قادة طالبان؟ ..فأما قادة طالبان فتم استقبالهم وفق اتفاقية علنية مع امريكا..و اما قادة حماس فيكفي غدر العرب بهم..اما قادة الاخوان ..فلم تشر اي حكومة غبية بتورطهم في الارهاب..و اما دعم المجموعات المسلحة فالامارات أكثر من يلعب هذا الدور..في ليبيا..في اليمن..فيا صاحب المقال...إنك لم تخالف خنازير الخليج الا في مكر تشوه به قطر امام العالم عندما تربطها بشبهات باقي دول الخليج متورطة فيها ..