قضايا وآراء

هامش التعاطي المحدود مع المطالب الـ13

جهاد صقر
1300x600
1300x600
حسنا فعل رباعي القطيعة والحصار إن لم نقل الانقلاب على قطر بوضع قائمة اشتراطات خيالية على الطاولة، وحسنا فعل المحاصرون بكشف النوايا الكامنة وراء حملة بدأت بفبركة وقائع وانتهت بفبركة واقع بأكمله. المطلوب إذن وضع شقيق غير قاصر تحت وصاية من لا يملك الوصاية، وذلك بعد فشل محاولة الانقلاب على الشقيق، ثم سير حملة حصاره جوا وبرا وبحرا بغير ما تشتهي الطائرات والناقلات والسفن.

مشهد يستحضر كلمات قصيدة محمود درويش:
أيها المارون بين الكلمات العابرة
احملوا أسماءكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا، و انصرفوا
وخذوا ما شئتم من زرقة البحر و رمل الذاكرة
و خذوا ما شئتم من صور، كي تعرفوا
أنكم لن تعرفوا
كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء؟
 
القصة إذ ليست التطبيع القطري-الإيراني المزعوم، بل قائمة من الاشتراطات طويلة تبارى أطراف الحصار الأربعة في تجميعها على عجل على قاعدة "ما يطلبه المستمعون"  بعناصر تثير السخرية لأكثر من سبب:

أولها ضعف الجودة والمحتوى والإخراج رغم عمل دول الحصار لفترة طويلة مع ذلك الكم من مستشارين بوزن توني بلير أو مؤسسات بحثية وعلاقات عامة قريبة من اللوبي الصهيوني تضم سياسيين وأكاديميين أو منسقين بين دوائر صنع القرار المحلي والموساد الاسرائيلي، ورغم التمتع بخبرات مخلوعي الربيع العربي أمثال دحلان وصالح وبن علي وشفيق القابع بعضهم في ظل مشيخات بلاك ووتر.

ثانيها المطبات العديدة التي ترتد بها قائمة الطلبات على سلبا على أصحابها؛ مابين قانونية متعارضة مع القانون الدولي، ومنطقية تفترض تقديم الأدلة على التهم قبل الانتقال لمرحلة الاشتراطات لا بعدها، وأخرى واقعية تقتضي استيعاب الواقع مقدما قبل المغامرة بالمغالاة برفع سقف ما يطلبه المستمعون من الطلبات. لذا فلا عجب أن تفوح من الطلبات الفلكية نشوة المنتصر في حرب عالمية وهمية وكأن  الخصم في المقابل عديم الحيلة وأوراق التفاوض، رغم أن المهزوم حقيقة هو من شن معركة القطيعة والحصار ليخسرها محليا وخليجيا وعربيا ودوليا. وهو ذاته من حسب حفنة مئات المليارات بيد ترامب تضمن تعبيد الطريق لاستنساخ تجربة حصار وتجويع العراق الطويلة، فالوصاية عليه عبر آلية رقابة وتفتيش، ثم وضع اليد على مقدراته آنذاك عبر برنامج النفط مقابل الغذاء، قبل الانقلاب النهائي عليه باجتياح واجتثاث للدولة والشعب، بينما تظهر حسابات البيدر أن دول القطيعة بدأت تعزل نفسها لا قطر بخطوات متعجلة غير محسوبة.

لم يفهم "المارّون" أن عراق الأمس ليس هو قطر اليوم، ربما لقصور في إدراك شبكة تحالفات وتشابك مصالح العالم اليوم في المنطقة عموما ومع قطر تحديدا، أو لعدم قراءة اختلاف الظرف الجيوسياسي والنهج السياسي بين الحالتين. والمحصلة تهاوي فبركات احتضان قطر للإرهاب مقابل عدم تهاوي فبركات احتضان العراق أسلحة الدمار الشامل آنذاك.

ترى كيف تبدو خيارات قطر في التعامل مع قائمة الطلبات بالاستفادة من تجربة حصار العراق؟

الخيار الأول: الخضوع وتقديم التنازلات.
لا تحمل تجارب المنطقة على صعيد تقديم التنازلات الكثير من المبشرات. وعندما تغيب نية التوافق لدى الطرف المبتز المتمسك بتحقيق أهدافه بغض النظر عن هشاشة موقفه، يمسي خيار الخضوع عديم الفائدة، كما يتضح من تأكيد وزير الخارجية السعودي «عادل الجبير» أنه «لا تفاوض» مع قطر حول قائمة المطالب، مما يعني نية التصعيد عبر مسار التعجيز. ومثلما لم يشفع تراجع العراق خطوات للوراء قبل انكشاف دعاوى دول القطيعة حول أسلحة الدمار الشامل وتعاونه مع بن لادن في تجنب الدمار النهائي قبل الضم للنفوذ الإيراني، لا يبدو خيار الخضوع لابتزاز اليوم عمليا بحال، مع وصف الخارجية مطالب دول القطيعة ب"غير الواقعية"، وقطر ليست لوحدها على أية حال.

نفس المعادلة وصلت لذات النتيجة على جبهات أخرى، إذ لم تفلح التنازلات الفلسطينية في وقف آلة التوسع والتدمير المنهجية الإسرائيلية، كما لم تجلب مبادرة السلام العربية -من طرف واحد- تجاه الدولة العبرية سلاما رغم انتظار دول القطيعة 15 عاما بلا شروط في الحالة الاسرائيلية المعتدية، مقابل مهلة ال 10 أيام في حالة قطر المعتدى عليها.

الخيار الثاني: نقل الكرة لملعب الخصم

يستمد هذا الخيار مشروعيته من عدم واقعية الأسس التي تقوم عليها حملة إخضاع قطر برمتها، إذ ينبني عليها فتح لشهية الانقلابيين نحو المزيد من الافتراءات والطلبات مستقبلا. ما يدعم خيار نقل الكرة إلى ملعب الخصم جملة من الأمور، يعززها سوء إدارة دول الحصار لملف حملتها:

فكلما طال أمد الحصار تفتت وتعمق فشله، وزاد ارتباك القائمين عليه وجمع تزايد الضغط على حملتهم برمتها. تعقد المشهد مع الأيام يفاقم تقاطع المصالح بين بعض الأطراف الخارجية التي تعتبر التصعيد تهديدا لمصالحها وهو ما يفسر وقفة الأوروبيين -بوجه ترامب- بجانب موقف قطر. وفي المقابل كلما استمرت تراجع دول القطيعة دبلوماسيا لصالح الدبلوماسية القطرية، وإعلاميا بوجه الإعلام العالمي والإعلام البديل، يزداد التفاف الشارع ضد مواقف دول القطيعة، مع ارتفاع نبرة التنديد العالمي على المستويين الشعبي والرسمي بالمسلك الاستفزازي تجاه الدوحة، والمحصلة المزيد من العزلة لمعسكر القطيعة.

مسار إعادة  الكرة لملعب الخصم -على وقع قصيدة محمود درويش المذكورة آنفا- يمكنه سلوك نفس مسار الاشتراطات -مع عكس الاتجاه- سواء تعلق الأمر بدعاوى وقف دعم الإرهاب، أو وقف أبواق التحريض، أو الإذعان للشرعيتين الخليجية والدولية و"التماهي مع المحيط العربي"، على قاعدة "من كان بيته من زجاج فلا يرمِ الناس بالحجارة".

فضاءات إعادة الكرة من حيث أتت عديدة، لا سيما عندما لا تعدو تهم الارهاب مجرد مزحة قياسا بوقائع تورط المدعي في مستنقع الإرهاب حتى أذنيه.  ومن أمثلة على ذلك تصنيف تقرير لجنة التحقيقات الخاصة بتقصي هجمات سبتمبر لإحدى دول القطيعة مقرا لغسيل أموال الارهابيين، وتسجيل الأمم المتحدة خروقات علنية لتلك الدولة لحظر الأمم المتحدة توريد السلاح لأطراف الصراع الليبي، ناهيك عن قتالها حكومة ليبيا الشرعية المشكلة برعاية الأمم المتحدة. كما يحضر هنا أيضا إطلاق ميليشيات -ذات سجل حافل بالانتهاكات برعاية تلك الدولة- سراح عدد من المطلوبين لمحكمة الجرائم الدولية ومن بينهم سيف الإسلام القذافي. الحديث إذاً عن أرهاب دولة علني على المستوى الدولي، بالمخالفة الصريحة للشرعية الدولية، من قبل أطراف مارقة تضع نفسها فوق القانون؛ تلجأ ممباي ترويع معارض سياساتها لتوزيع قوائم إرهاب من صنعها يمنة ويسرة؛ وضعية فريدة تستحق دراسة إمكانية وضع آلية دولية للرقابة على أنشطة ومعاملات وخروقات دول مارقة راعية الإرهاب على هذه الشاكلة، يغطي فضاء انتهاكاتها حقوق الإنسان رقعة جغرافية واسعة من مالي في عمق الصحراء الكبرى إلى إفريقيا الوسطى جنوبها، ومن ميليشيات وسجون اليمن السرية، إلى سجون الدولة السرية ذاتها، كدولة تنتهك حقوق مواطنيها.

ملف دعم الإرهاب الخاص ببعض دول القطيعة -وبعضها تحت طائلة قانون جاستا- يأخذ أبعادا أكبر عند ضم جرائم الإبادة والانتهاكات الحقوقية التي يرتكبها المدعومون من تلك الدول ماليا واعلاميا وعسكريا، إذ تضم قائمة المستفيدين من ذاك الدعم النظام السوري وميليشيات إيران الإجرامية في المنطقة كالحشد الشعبي الطائفي، والأنظمة العسكرية الواصلة إلى الحكم على ظهر دبابة كنظام السيسي، وغيرهم من الانقلابيين على شاكلة حفتر والحوثي وصالح. وبالتالي يشترك الداعمون والمنفذون في تحمل المسؤولية الأخلاقية والقانونية عن كافة الجرائم والمجازر التي لا تسقط بالتقادم، كمجازر رابعة والحرس الجمهوري وماسبيرو ورمسيس، وجرائم قصف مدن الشرق الليبي والداخل السوري، وجرائم الإبادة الجماعية في داريا وحلب والحولة والغوطة ومضايا وديالى والأنبار ونينوى وغيرها، وكل ما يندرج تحت الأدوار القذرة لميليشيات القطاعين العام والخاص خارج إطار القانون.

وعند ذكر الإرهاب المتصل بالجماعات الجهادية تحديدا، لا يمكن التغاضي عن قصف بعض دول القطيعة من يحاربون تنظيم الدولة بجدية كمجلس ثوار درنة لصالح من ثبت تواطؤهم مع تنظيم الدولة أمثال خليفة حفتر. كما لا يمكن التغاضي عن تزويد بعض الجماعات المسلحة في سوريا ببعض أكثر العناصر عنفا وتطرفا من إحدى دول القطيعة -حسب الكاتب البريطاني ديفيد هيرست-، يوم تم إطلاق سراح 1239 سجينا من المحكومين بالإعدام - بما في ذلك متهمين بجرائم الاغتصاب والقتل العمد - شريطة توجههم "للجهاد في سوريا"، كما هو موثق في مذكرة مؤرخة في السابع عشر من أبريل 2012.

وعندما تعتبر الأمم المتحدة المستوطنات الإسرائيلية على الأرض الفلسطينية المحتلة غير شرعية، يمسي دعم وتمويل بعض دول القطيعة للنشاط الاستيطاني في القدس الشرقية عبر تحويل ملكية عقارات فلسطينية لحساب مستوطنات اسرائيلية خرقا لقرارات الأمم المتحدة ومعها "الشرعيتين الخليجية والدولية بالقطع مع "التماهي مع المحيط العربي". يستوي في ذلك تمويل حروب الإبادة الصهيونية كل سنتين تقريبا ضد قطاع غزة المحاصر، وقصف غزة بطائرات إماراتية -إن صح تقرير فرانس24-، بخلاف النشاط الاستخباري لفرق الهلال الأحمر لبعض دول القطيعة في الداخل الفلسطيني، بالإضافة لملفات إيواء بعض دول القطيعة مجرمين متهمين باغتيال العاهل السعودي تارة، وإيواء آخرين متورطين بجرائم تدمير مدن أو إبادة أحياء بأكملها كعائلة الرئيس السوري بشار الأسد وعائلة الرئيس اليمني المخلوع علي عبدالله صالح تارة، ناهيك عن التواطؤ مع  إرهابيين -تخت حماية دول القطيعة- في تبييض سرقاتهم من خزائن دولهم عبر بنوك بعض دول القطيعة، وبفضل تلك الأموال يتم تمويل الإرهاب بل وتمويل مشاريع تهدد الوجود الإنساني في مصر والسودان كسد النهضة الاثيوبي.

أما دعاوى إغلاق القنوات ووقف قنوات التحريض فقد تكفل بالرد عليها الإعلام العالمي ومنظمات المجمتع المدني، حيث تمت تعرية محاولات بعض دول القطيعة للعودة لتخلف نظام الدعاية السوفياتي عبر بوق وحيد هو الإعلام الرسمي، وممارسات تفضح حملة القطيعة بفرض السجن والغرامة وممارسة التعذيب بحق كل من يخالف الرأي ولو بتغريدة؛ وبيت القصيد تكميم الأفواه لمنع الحديث عن التجاوزات.
وأخيرا لا يغلق ملف وقف التحريض دون أن بتم تجريم كل تحريض يتضمن الإساءة للثوابت المجتمعية والدينية والتقاليد الاجتماعية الحسنة وحق الانسان في الكرامة والاختيار، وهو ما يتعين القيام به من دول القطيعة، بما في ذاك تفعيل آلية الرقابة على سلوك وسائل الإعلام التي ليس في آجندتها غير النيل من الثوابت والقيم وهي غنية عن التعريف.
0
التعليقات (0)